تقرأ في هذا التقرير «تاريخ جمال عبدالناصر وكسوة الكعبة الأكذوبة والحقيقة، هل حقًا الخلاف مع العاهل السعودي أدى لمنع إرسال الكسوة ؟، هل منع ناصر مسلمي مصر من الحج سنة 1962 م»
تقترب أيام الحج ومع حلولها تجيء شائعات تاريخية يرددها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي بل وبعض الفضائيات المصرية (مــن هــنــا) حول توقف إرسال كسوة الكعبة من مصر بقرار جمال عبدالناصر.
جمال عبدالناصر وكسوة الكعبة .. نص الشائعة
تقول شائعة جمال عبدالناصر وكسوة الكعبة أن الخلافات بين الرئيس المصري والعاهل السعودي سعود بن عبدالعزيز بسبب حرب اليمن أدت إلى قرار الرئيس المصري عام 1962 م بمنع إرسال كسوة الكعبة التي اعتادت مصر أن تسلمها إلى مكة طيلة 1321 عامًا.
جمال عبدالناصر وكسوة الكعبة .. الرد على الشائعة
بدايةً فإن الرد بمراجع مصرية من كتب أو صحف سيتم رفضه كون أنها ناطق رسمي بلسان نظام الرئيس جمال عبدالناصر وسيتم اتهامها بالكذب، وعليها فقد اكتفينا في تراثيات بالرد على الشائعة عن طريق وثائق المملكة العربية السعودية في تاريخ الحج.
أولاً فإن حرب اليمن ـ مثار الخلاف السعودي المصري ـ بدأت في سبتمبر 1962 م وتفاقمت أكثر سنة 1963 م، بينما موسم الحج الذي توقفت فيه كسوة الكعبة كان في شهر مايو 1962 (أي قبل الحرب بـ 5 أشهر).
ثانيًا بداية الخلاف حول كسوة الكعبة لم يكن سنة 1962 م وإنما بدأ عام 1960 وجرى تنفيذه سنة 1962 م، نتيجةً لسوء التنسيق بين السلطات المصرية والسعودية ومشكلة بالتصنيع المصري للكسوة ـ حسب البيان السعودي ـ ، وتفصيل ما جرى منشور في ص 6 من العدد 1919 لـ مجلة أم القرى السعودية بتاريخ الجمعة 11 مايو سنة 1962 م الموافق 7 ذو الحجة سنة 1381 هـ.
يشير الخبر إلى أن المملكة العربية السعودية أعلنت عن جاهزية الكسوة السعودية للكعبة في يوم الأربعاء 5 ذو الحجة 1381 هجري الموافق 9 مايو 1962 م وتم تسليمها إلى الشيخ أمين الشيبي وعائلته آل الشيبي سدنة الكعبة بحضور حسين عرب وزير الحج السعودي وقتها والذي قال «هذه الكسوة صُنِعَت في مكة وبأيدي وطنية سعودية وسوف تُصَنع الكسوة مستقبلاً في مكة المكرمة بأيدي وطنية سعودية».
السؤال الآن ما الذي استدعى السلطات السعودية إلى تصنيع كسوة الكعبة ؟.
والإجابة نجدها في أسفل خبر تسليم الكسوة، ففي اليوم التالي لجاهزية الكسوة السعودية (الخميس 6 ذو الحجة 1381 هجري الموافق 10 مايو 1962 م) قامت مصر بتسليم كسوة الكعبة للسعودية عبر باخرة مكة التي استقرت في جدة، وأعلنت المملكة العربية السعودية اعتذارها عن تسلم كسوة الكعبة وإبلاغ مصر في حينها بذلك ـ أي أن مصر لم تُبَلَّغ أصلاً قبل موسم الحج ـ، وقامت مصر بمنع مسلميها من أداء الحج ــ سيتم الرد على تلك الجزئية بالأسفل ــ.
اقرأ أيضًا
دار كسوة الكعبة في مصر «هنا أرادت فرنسا تزيين بيت الله الحرام»
أما عن سبب اعتذار السعودية عن قبول الكسوة المصرية للكعبة فقد كان مبيتًا نتيجة للخلافات السعودية مع مصر بسبب الوحدة المصرية السورية، ويتمثل في أن كسوة مصر خلال موسم الحج 1379 هجري/ 1960 م وموسم الحج 1380 هجري/ 1961 م كانت سريعة التمزق ومتغيرة اللون ولهذا السبب أمر الملك سعود بأن تتولى المملكة العربية السعودية صناعة الكسوة.
منع الحجيج في موسم 1381 هـ/1962 م.. هو السبب في شائعة جمال عبدالناصر وكسوة الكعبة
أزمة منع الحجيج هي السبب الرئيسي وراء شائعة جمال عبدالناصر وكسوة الكعبة المشرفة، لكن منع الحجيج مَثَّل لغزًا تاريخيًا حتى الآن، فالسعودية تقول في جريدة أم القرى أن سلطات الباخرة المصرية منعت الحجاج من النزول رغم النداءات التي وُجِّهَت لهم بطلب النزول ومشاركة إخوانهم الحجاج المسلمين في أداء الفريضة، وجاء موقف سلطات الباخرة بسبب رفض السعودية تسلم الكسوة، وعلى ذلك ناشد علماء كُثُر الرئيس جمال عبدالناصر بأن يسمح للحجيج بأداء الفريضة لكن ناصر رفض.
أما رد الفعل المصري فيقول رواية أخرى بالأهرام مفادها أن البعثة المصرية فوجئت بعدد كبير من الظباط والجنود السعوديين منتشرين فى ميناء جدة وهم يحملون السلاح، ثم تلقى قبطان الباخرة مكة بلاغًا من السلطات السعودية بأن الضباط والجنود السعوديين لديهم أوامر صريحة بإطلاق النار على كل من يحاول إنزال كسوة الكعبة، وفي نفس الوقت ظهرت بعض السيارات التابعة للسلطات السعودية وراحت تطوف فى الميناء معلقة لافتة، باسم حكومة الملك سعود لن يسمح بنزول كسوة الكعبة القادمة من القاهرة، وتردد بعض الهتافات العدائية ضد الجمهورية العربية المتحدة وثار الحجاج على ظهر السفينة مكة وأخذوا يهتفون ويلوحون باعلامها وهم يرددون الله أكبر، الله أكبر.
اقرأ أيضًا
140 صورة نادرة تلخص أجواء ” الحج زمان “
وتتابع رواية الأهرام أن السلطات السعودية أعلنت حالة الطوارىء فى ميناء جدة، وفي نفس الوقت قدمت السلطات السعودية إنذار إلى ربان السفينة بالمغادرة والإبحار والعودة الي الديار، ورفع الظباط السعوديين سلم السفينة الذى يصلها بالرصيف بالقوة، اضطرت السفينة الى مغادرة الميناء وعليها جميع الحجاج وكسوة الكعبة الشريفة.
تحليل حادث منع الحجيج .. هل فعلها جمال عبدالناصر حقًا ؟
لتحليل حادث منع الحجيج وهل عبدالناصر متورط فيه، فيجب أولاً إعمال العقل مع وجود أدلة النقل (أي النظر بعقلانية جنبًا إلى جنب مع مطالعة الوثائق).
اقرأ أيضًا
قصة حامد جوهر وسهير زكي «كذبة تاريخية من وحي خيال السوشيال»
أغلب مرددي الشائعة التاريخية المتعلقة بالكسوة يذكرون أن جمال عبدالناصر له ردود فعل متهورة وكان يسعى وراء البروباجندا (حسب تصورهم)، أي أنه لا يقبل أي شيء يمس شعبيته ولا جماهيريته في مصر أو خارجها؛ ولو أخذنا بهذا الرأي وسَلّمنا به (تهور عبدالناصر وعشقه للبروباجندا)، فعقليًا لا يستقيم المنطق التاريخي مع أن عبدالناصر كان لديه ثقافة منع الحج.
بالمنطق فإن تصرف مثل منع إرسال كسوة الكعبة أو منع الحجيج من أداء الفريضة كرد فعل متهور على الملك السعودي، لو كان صدر عن جمال عبدالناصر لأثار ثائرة جمهور المسلمين حول العالم عليه ولكانت زعامته وشعبيته قد تآكلت كون أنه يمس شيئًا شديد القدسية في العقيدة الإسلامية وهو مسألة تعنته في إرسال كسوة الكعبة التي هي جزء لا يتجزأ عن أداء الركن الخامس من أركان الإسلام.
اقرأ أيضًا
لسه بدك ترمينا في البحر يا جمال «ناصر لم يقلها وهاجم مردديها»
ومع تنحية العقل واستخدام الأدلة المادية الوثائقية نجد أن قيام جمال عبدالناصر بمنع مسلمي مصر من أداء فريضة الحج يتناقض أصلاً مع العلاقات السعودية المصرية خلال الستينيات.
قبل موسم الحج 1963 م/ 1382 بأيام قليلة كانت الحرب الكلامية بين مصر والسعودية قد نشبت وجذورها حين استقبل الأمير فيصل (الملك فيما بعد) وفود الحجاج وممثلو الصحافة العربية وأبناء الجاليات العربية والإسلامية وألقى خطابًا كانت القومية العربية جزءًا من محاوره وقد تم الهتاف «نريدها إسلامية عربية لا اشتراكية ولا شيوعية» في تلميح بأن المقصود هو جمال عبدالناصر، وقال فيصل «القومية ليست مذهبًا ولا مبدءًا ولا عقيدة وإنما هي جنيس ودم ولغة ومولد».
وقبل وقفة عرفة بـ 48 ساعة لموسم الحج 1382 هجري/ مايو 1963 م تكلم الأمير فيصل(ولي العهد والملك لاحقًا) عن القومية العربية بأسلوب أخف في الهجوم وقال «القومية العربية يجب أن تكون نواة لإتحاد إسلامي».
كل هذه الخطابات تمت بوجود حجاج مصريين كما تذكر وثائق وزارة الحج السعودية، فمن باب أولى منع الحجاج المصريين سنة 1963 م لأن المكان المتجهين له يتم فيه مهاجمة رئيسهم، وهو مالم يحدث أصلاً.
اقرأ أيضًا
شائعات تاريخية عن قبر جمال عبدالناصر «الصحيح هو دفنه في الأزهر»
الأمر الثاني أن المسائل الدينية كانت بعيدةً عن الصراع الكلامي بين ناصر والسعودية، ويدلل وثائق الحج بمصر خلال فترة الحرب الكلامية بين مصر والسعودية.
فمن ضمن الوثائق بيان منح الأزهر الشريف تقررت لعام 63/64 على حساب الأزهر وكان فيها 2 من السعودية (ص 4)، ولو كان هناك رد فعل مبالغ فيه من ناصر لقام بطرد طلبة السعودية خاصةً وأن الأزهر فعليًا كان مؤسسة حكومية.
أما بشأن الحج في فترة الخلافات السعودية/المصرية نجد وثيقة أزهرية بتاريخ إبريل 1964 م متعلقة بموسم الحج تقول أن الأزهر الأزهر 42 عضوًا من العلماء والموظفين وطلبة المعاهد الأزهرية لأداء فريضة الحج.
وفي شهر مارس 1965 صدرت وثيقة بها أسماء 19 أزهريًا فازوا بحج القرعة، وفيها استبيان بأسماءهم وبلادهم ونوع سفرهم.
كذلك وثيقة من مدير البنك الأهلي المصري إلى مدير البنك المركزي بتحويل 500 جنيه مصري إلى جنيه استرليني باسم الشيخ حسن نادر رفعت تحت بند مصروفات شيخ الأزهر في الأراضي الحجازية سنة 1965 م أثناء فترة الحج.
وثيقة أخرى من مدير الشئون الإدارية في الأزهر إلى المحاسب القانوني بالمبرة المصرية في مكة تشير إلى أن شيخ الأزهر حسن مأمون سافر مع زوجته في 6 إبريل 1965 م إلى السعودية لأداء فريضة الحج ومطلوب تيسير الإقامة له، وهذه الوثيقة تذكر أن المبرة المصرية كانت موجودة في السعودية ولو أراد ناصر الرد على العاهل السعودي لأغلقها.
لا يتوقف وضع الحج في زمن جمال عبدالناصر عند هذا الحد، بل أيضًا هناك جوانب تاريخية أخرى، فتاريخيًا لم تكن تعرف مصر فكرة نقل شعائر الحج على الهواء مباشرةً إلا في زمن جمال عبدالناصر، فقد كانت المسألة قبله تتم بالاكتفاء بالفقرات الدينية فقط.
ولأول مرة تعرف مصر فكرة نقل الشعائر على الهواء مباشرةً من جبل عرفات على الهواء مباشرة كان على موجة البرنامج العام في تمام الساعة العاشرة والربع صباحًا بتوقيت القاهرة وتم هذا قبل قبل وفاة جمال عبدالناصر بـ 8 أشهر.