كتب – وسيم عفيفي
أولى كل المسلمين اهتماما خاصاً بطباعة المصاحف الشريفة منذ أن تعرفوا على الطباعة .
ولا أفضلية في طبعة دون أخرى في دول العالم العربي مع اختلاف تقسيماتها الجغرافية و تأثيراتها الدينية و السياسية .
فكان المصحف التونسي و المصحف الموريتاني والمصحف الليبي وغيرهم .
لكن كان أشهر مصحفين على الإطلاق في العالم العربي هما مصحف مصر و مصحف الأقصى .
لكن الشهرة الكبيرة كانت للمصحف المصري .
أسباب كثيرة جعلت المصحف المصري هو صاحب المركز الأول في قائمة المصاحف الأكثر شهرة والأوسع انتشاراً ، و عوامل قليلة كانت قاتلة ، تسببت في اندثار الطبعة المصرية للمصحف .
“ تراثيات ” يخوض مراحل رحلة المصحف المصري عبر هذا التقرير .
اقتران الطبعة المصرية للمصحف يرتبط ارتباطاً تاريخياً بتعرف مصر على الطباعة نفسها .
لم تكن مصر في محل معرفة للطباعة ، لكن الزلزال الفكري الذي أعقب الحملة الفرنسية على مصر كان هو نواة تعرف مصر على مفهوم “الطباعة” خلال 3 سنوات هي عمر الحملة الفرنسية .
ومع رحيل الحملة الفرنسية رحلت المعرفة المصرية بالطباعة وظل المصريين لا يعرفون شيئاً في هذا المجال .
قضت مصر لا تعرف الطباعة عقب رحيل الحملة الفرنسية لمدة 22 سنة ، وبحلول العام 1822 م بدأت معرفة مصر بالطباعة عقب عودة نيقولا أفندي مسباكي من إيطاليا ومعه 3 طابعات .
وبدأت مرحلة الطباعة في مصر منذ هذا التاريخ .
ظلت فكرة طبع المصحف غير مطروحة لمدة 10 سنوات ، بفتوى دينية استندت إلى أن مواد الطبع غير طاهرة ولا يجوز كتابة كلام الله بها .
وتاريخياً هذا السبب و إن كان مقبولاً لكون العلماء كانوا خارج الخلفية العلمية المتطورة .
لكن السبب الرئيسي في رفضهم هو أن الطبع ضربة قاتلة لرزقهم كون أنهم كانوا يقتاتون من النسخ ولذا فإن الطباعة ستوقف حركة النسخ ومن ثم ينتهي التكسب .
مع إصرار محمد علي وبالتوازي مع ذلك إنشاء مطبعة بولاق ، طُبِعَت أجزاء من القرآن الكريم بموافق شيخ المفتين في ذلك الوقت ورموز أزهرية ، ووزعت تلك الطبعات على تلاميذ المدارس .
مع انصرام عصر محمد علي و بدء عهد عباس حلمي الأول انتهت حركة طبع المصحف المصري لاكتشاف أخطاء فيها ، فصدر فرمان من الخديوي بمصادرة كافة الطبعات سنة 1853 م
الباحثة سهام السلاوي في دراستها عن تلك الفترة ، أوضحت أنه كان يوجد 296 مصحف في مبنى نظارة الجهادية .
كان العام 1858 م انطلاقة في حد ذاته بشأن المصحف المصري ، حين أراد سعيد باشا توزيع المصاحف على التلاميذ في المدرسة الحربية أشار عليه علماء الأزهر بجواز حدوث ذلك لكن مع تصحيح المصاحف وتنقيحها .
فتم توزيع 52 مصحف على الجهادية ، وقام الشيخ الخطاط عبدالباقي الجاري بتصحيح 150 مصحف ، فضلا عن تصحيح 10 مصحف في شهر و 57 آخرين في 4 شهور .
ومن بين المصاحف المصححة كان هناك 134 مصحف تخص أشخاصاً بعينهم .
مثل الحاج عثمان وله 180 مصحف ، والحاج أمين وله 26 مصحف .
فتم تصحيح تلك المصاحف وطبعها على نفقة الحكومة وإرجاع النسخ الأصلية لأصاحبها بعد أن تصحح هي الأخرى .
وكان نتاج هذه العملية هو بدء انتشار المصحف في كافة القُطْر المصري .
ومع عصر الملك فؤاد كان مرحلة الصحوة للطبعة المصرية ، حين طبع المصحف الأميري المعروف بعد ذلك بـ “مصحف مصلحة المساحة” لأول مرة سنة 1924 م ، لتكون أول طبعة مصرية كاملة .
وقام على تصحيحه وتدقيقه الشيخ محمد خلف الحسيني؛ شيخ المقارئ المصرية، وحفني ناصف؛ المفتش الأول للغة العربية في وزارة المعارف العمومية، ومصطفي عناني المدرس بمدرسة المعلمين الناصرية، وأحمد الأسكندري، ونصر العادلي رئيس المصححين في المطبعة الأميرية تحت إشراف مشيخة الأزهر الشريف، وتمت مراجعته في 1918، وتم جمعه وترتيبه في المطبعة الأميرية، وطبع في مصلحة المساحة عام 1924 م ، وكان عدد صفحات المصحف 826 صفحة .
ولكن في عهد الملك فاروق، وجد علماء الأزهر أخطاء في المصاحف التي طُبعت في عهد أبيه؛ فمنها أخطاء في الرسم العثماني وأخطاء في ضبط أواخر الكلمات في بعض السور القرآنية وكذلك أخطاء في الوقوف؛ حيث وجد العلماء أن هناك أخطاء واضحة في أكثر من ثمانمئة موضع، ثم طُبعت نسخ أخرى وقام بمراجعتها الشيوخ المصححون أنفسهم، وبالتالي وقعوا في الأخطاء السابقة نفسها، بالإضافة إلى طباعة مصاحف أخرى في المطابع الأهلية سواء كانت مطابع آلية أم حجرية على النسخة السابقة بمعرفة الشيخ محمد علي خلف الحسيني، وبموافقة اللجنة المعينة بقرار الملك فؤاد الأول بكل ما فيها من أخطاء سابقة.
فلما تقررت إعادة طبع ذلك المصحف في عهد الملك فاروق، تألفت لجنة للمراجعة والتدقيق من الشيخ علي محمد الضباع؛ شيخ المقارئ المصرية، والشيخ عبد الفتاح القاضي المشرف على معهد القراءات، ومحمد علي النجار من كلية العلوم، والشيخ عبد الحليم بسيوني المراقب في الأزهر الشريف، فأتمت مراجعة المصحف وتصحيحه تحت إشراف مشيخة الأزهر وراجع عملها الشيخ عبد الرحمن حسن وكيل الجامع الأزهر وتم إعداد المصحف وطبعه بمصلحة المساحة، أما ترتيبه فتم في مطبعة دار الكتب المصرية، وكانت تلك الطبعة الثانية للمصحف الشريف وصدرت العام 1371هـ/ 1952
وكانت أصح وأجمل الطبعات، ثم توالت الطبعات في المطابع الأميرية وغيرها حتى اليوم، وعُرِف بمصحف بولاق، أو المصحف الأميري، أو المصحف المصري، أو مصحف دار المساحة، أو مصحف دار الكتب، فهي مسميات لمصحف واحد وهو الذي كتب حروفه الخطاط جعفر بك.
شهرة المصحف المصري في القرن العشرين لم تكن فقط لاهتمام الأسرة المالكة ، وإنما لانتشار المطابع الأهلية والتي كانت بمثابة البوابة الكبيرة لانتشار المصحف
ومنها مصحف الحلبي والذي طبع في مطبعة مصطفى الحلبي وكان أول مصحف جوامعي بالرسم العثماني وكان مخصصا للطلاب ولتوزيع المصاحف على المساجد .
كذلك كان مصحف السحار .
وهو مصحف مطبعة السحار لصاحبها سعيد جودة السحار وبدأ المصحف في الانتشار منذ منتصف الثلاثينيات .
لكن كانت مصر على موعد مع أشهر طبعة في تاريخها وهي طبعة مصحف الشمرلي والمسمى على اسم المطبعة “مطبعة الشمرلي” لصاحبها ومؤسسها الحاج أحمد الشمرلي الكبير .
ففي العام 1935 م ، كان هو وشقيقه، وابنه فوزي، يعملون بجد شديد في طباعة المصحف .
ومع العام 1944 م ، تأسست شركة الشمرلي للطباعة بالإسكندرية ثم انتقل بها للقاهرة وفتح فروعاً منها في درب سعادة ومصنع مسجد الإمام الحسين ومصنع العباسية .
كانت أول طبعة للمصحف الشريف طبعتها مطبعة الشمرلي، هي تلك النسخة التي كُتبت بخط مصطفى نظيف الشهير بـ “قدروغلي”، وكان قد خطها عام1891م ، وتم طباعتها في المطبعة العثمانية، ثم قامت الشمرلي بإعادة طبعها عام1944م
أما أول من خطّ المصحف الخاص بمطبعة الشمرلي هو الحاج محمد سعد إبراهيم، الشهير “بحداد”، وكتبه على الرسم العثماني، وما تزال النسخة الأصلية المرسومة بخط يده محفوظة لدى عائلة الشمرلي
أسباب كثيرة جعلت مصحف الشمرلي هو المتصدر الرئيسي في حركة اقتناء المصحف وشهرته ، لكن سبب واحد كان الأقوى وهو طريقة الكتابة .
فناهيك عن نوع الورق الجميل والرسم والتخطيط فضلاً عن الدقة ، لكن انتشار المصحف يرجع إلى أن حفظة القرآن الكريم من الشيوخ الكبار تقريبا في مصر، وكثير من الدول العربية يعتمد حفظهم عليه؛ لأن كل صفحة تحتوى على 15 سطرا فقط، مما يجعل العين تعتاد عليه، وهو غير مصحف الملك فهد المختتم الآيات، فالحفظة يعرفون موضع الآيات ومكان السورة بدايتها ونهايتها بالعين؛ لذلك فمن اعتاد على هذه الطبعة لا يعرف القراءة في مصحف طبعته مختلفة.
اندثار طباعة المصحف المصري بدأ في الثمانينيات ، خاصةً بعد تأسيس مجمع الملك فهد سنة 1985 م وتوزيع المصاحف على الحجيج .
فضلا عن توافد العمالة المصرية على الدور العربية كليبيا والعراق والسعودية ، كل هذا أدى إلى دخول نوع جديد من المصاحف المطبوعة بشكل فخم وأسلوب أسهل يلائم الكلاسيكية والمعاصرة كذلك
لكن حتى لو كانت هذه عوامل لاندثار المصحف المصري ، لكن هناك سبباً أقوى وهو عدم التطور والابتكار في الطباعة بالتنسيق مع المؤسسات الأزهرية المختلفة .
احتفظت مصر في الطباعة بماضي ذا أطلال جميلة عتيقة
لكن لم تطور نفسها بالابتكار والتميز والتنوع لأسباب متعلقة بقوتها الناعمة وكانت عوامل عقيمة
السلام عليكم
شكرا على هذا المقال الجيّد !
جاء في المقال ذكر عمل الباحثة سهام السلاوي. هل لكم أن تفيدونا بعنوان الكتاب بالضبط والدار التي نشرته، ولكم منّا جزيل الشكر والامتنان.