تقرأ في هذا التقرير «ما بين الشيخ عاشور محمد نصر وجمال عبدالناصر .. الحقيقة والأكذوبة، نقاش الميني جيب وتطبيق الاشتراكية، هل اعتقال عاشور نصر حدث فعلاً ؟»
كتب | وسيم عفيفي
زخر عصر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بالوقائع الرمضانية الكثيرة، إلا أن أكثر هذه الوقائع شهرةً هو اعتقال الشيخ عاشور محمد نصر بسبب هجومه على الاشتراكية والميني جيب خلال كلمة ألقاها في وجه جمال عبدالناصر؛ فما حقيقة هذه القصة ؟
الخلفية التاريخية
بدأ شهر رمضان عام 1388 هجري يوم 21 نوفمبر 1968 ومع حلول يومه الأول اندلعت مظاهرة طلابية في المنصورة اعتراضًا على قانون تطوير التعليم الجديد، واتسعت رقعة المظاهرات لتشمل جامعة الإسكندرية يوم 26 نوفمبر = 5 رمضان، وأسفرت المظاهرتين عن مقتل 3 طلاب ومزارع وإصابة 138 آخرين (62 متظاهر و 76 ضابط وعسكري شرطة).
وجاءت مظاهرة الطلاب في رمضان 1388 = نوفمبر 1968 م لتكون الثانية ضد نظام الرئيس جمال عبدالناصر إذ كانت الاولى قبلها بأشهر وتحديدًا في فبراير من نفس العام؛ واستدعت مظاهرة التلامذة والطلاب لانعقاد المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي في 12 و 13 رمضان = 2 و 3 ديسمبر 1968 برئاسة جمال عبدالناصر.
هزت تلك المظاهرات جمال عبدالناصر شخصيًا، إذ اعتبرها تفسير على وجود تناقض بينه وبين الطلاب، لكن ما كان يحيره بحسب خطابه أنه لا يفهم ما الصلة بين الاعتراض على نظام تعليمي وبين اقتحام مديرية أمن الإسكندرية وأقسام الشرطة في المنصورة، بالإضافة إلى اهتمامه بالشرطة نفسها إذ كان يهاجمها سرًا مع وزير الداخلية ويقول «هل الشرطة فقدت الرشد ولا تستطيع أن تفرق بين متظاهرين من التلامذة وبين مخربين اندسوا فيها ؟».
عقد جمال عبدالناصر المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي داخل جامعة القاهرة، وحضره شخصيًا بصحبة وزير الداخلية ووزير التعليم ووزير الأوقاف وممثلين عن الطلاب والعمال والمرأة والاتحاد الاشتراكي، و1700 ممثل عن المحافظات وكان الشيخ عاشور محمد نصر إمام مسجد المرسي أبو العباس ممثلاً عن محافظة الإسكندرية.
جلسة الميني جيب والفراغ الديني
أعلن جمال عبدالناصر في جلسة 13 رمضان 1388 = 3 ديسمبر 1968 أن لجميع المتحدثين مطلق الحرية للتعبير عن آراءهم حول أسباب المظاهرات، فكان الشيخ عاشور محمد نصر أحد المتكلمين وقال أمام جمال عبدالناصر أن الطلاب لا يعانون من فراغ فكري ولا ثقافي ولا سياسي، إنما يعانون من فراغ ديني والمسؤولية ليست عليهم وإنما على جميع الحاضرين هنا.
واصل الشيخ عاشور حديثه مشيرًا إلى أن الأمة الإسلامية متخلفة ومتأخرة لأنها صارت دولة كلام، وأن سن القوانين ليس حلاً للقضاء على الفراغ الديني وإنما التطبيق هو الحل الضروري.
استدل الشيخ عاشور محمد نصر بالمحبين للاشتراكية فقال نصًا «حتى في التطبيق الاشتراكي والذين يتكلمون عن الاشتراكية، لقد حضرت إحدى المحاضرات عن الاشتراكية وبيجيي المحاضر راكب عربية مرسيدس تمنها 7 آلاف جنيه وخاتم بـ 2000 جنيه وبعدين يطلع من المحاضرة ياخد الشلة معاه ويروح المطعم يتعشوا ويدفع 7 ولا 8 جنيه، وهو في المحاضرة لسه بيقول اربطوا الحجر على بطنكم للجوع، جوع ! .. جوع إيه الله يخرب بيتك، انت خليت فيها جوع ؟ وانت مش بتجوع ليه ؟ هو الجوع دا مكتوب عليّ أنا .. هي الاشتراكية عليه وعليك لا ؟»؛ واختتم الشيخ عاشور محمد نصر كلامه قائلاً «المهم اليوم أن لا نرى القيم الدينية قوانين فقط، ونريد أن نراها فعالة مطبقة، يكفي أن السيدات يدخلن المسجد بالميني جيب».
رد جمال عبدالناصر
أثارت كلمة الشيخ عاشور محمد نصر ثائرة الحاضرين، إلا أن جمال عبدالناصر تدخل عقب انتهاء كلمته وذكر بأن كلمة الشيخ عاشور كانت مفيدة لأنه قام بالترفيه عن الحاضرين في هذا الاجتماع.
ثم قام جمال عبدالناصر بالرد على ما ذكره الشيخ عاشور وقال «أنا أعتبر أن بلدنا من أكثر البلاد تمسكًا بالدين، هذا باعتراف كل الناس فى الحقيقة أن الثورة عملت من أجل الدين، وأنا أقول برضه للشيخ عاشور وأمثاله إن ده شغلهم اللي بيأخذوا عليه ماهية واللى بيأخدوا عليه فلوس واللي مفروض إنهم يدعوا ويبشروا من أجله، ولكن بالأسلوب السليم مش بالأسلوب القبيح اللي اتقال النهاردة، أما الكلام عن الميني جيب ده الحقيقة غير معقول، وأنا أعتقد أن الكلام ده إذا اتقال في مسجد أبوالعباس، والناس ضحكت زي إحنا ما ضحكنا النهاردة تبقى العملية هزلية وليست عملية جدية».
لم يفوت على جمال عبدالناصر التعليق على جزئية الميني جيب فقال «مثلا هو بيتكلم عن الميني جيب، أنا لو طلعت قانون يمنع الميني جيب معنى ده إيه؟.. معناه إن البوليس له الحق أنه يتعرض لكل ست في الشارع سواء كانت لابسة مينى جيب أو مش لابسة، وهذا الحقيقة شعور يؤذي كل واحد فينا».
واصل جمال عبدالناصر كلامه «مين اللي عليه يعمل هذا القانون ؟، كل عيلة عليها تعمله، كل رب عيلة يعمل هذا القانون، الجامعات مثلا يطلعوا قرار إن ماحدش يدخل بالميني جيب، أو شيء من هذا القبيل، والبنت اللي تيجي في الجامعة به تُفصل، وبهذا نستطيع نحدد أمورنا».
وأنهى جمال عبدالناصر كلامه قائلاً «أحب أن أنهي كلمتي بأن أقول إن رجال الدين والوعاظ والمشايخ عليهم في هذا مسئولية كبيرة إنهم يوعظوا مش بس في المسجد اللي هم فيه، في الحي بيختلطوا وبيقولوا للناس وأولياء الأمور والآباء والعائلات، وبعدين المجتمع منذ قام وحتى اليوم فيه الصالح وفيه الفاسد منذ قامت الخليقة من عهد آدم، وقصة هابيل وقابيل فيها الفاسد وفيها الصالح، وعلينا جميعا أن نقاوم الفاسد وندعم الصالح والدين والحمد لله بخير في بلدنا، والشكر للشيخ عاشور على أنه فتح لنا هذا الموضوع لنتكلم فيه».
في 22 رمضان 1388 هـ = 12 ديسمبر 1968 م انعقدت أعمال اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، أي بعد أقل من 10 أيام من المؤتمر القومي؛ وفي هذا الاجتماع تكلم جمال عبدالناصر عن الشيخ عاشور وكلامه عن الاشتراكية.
طالب جمال عبدالناصر جميع الحضور برفع أيديهم ثم قال «الشيخ عاشور بيقول إن فيه ناس بتلبس خاتم بألفين جنيه، هل فيه حد هنا لابس خاتم بعشرة جنيه .. وَلاَّ بعشرين جنيه ؟، وأنا ماشفتش حد لابس خاتم بألفين جنيه أبدًا – من أول الثورة لغاية دلوقت – يعنى يمكن فيه ستات لابسين .. لكن ماشفتش راجل لابس، العربية طبعاً .. يعنى بيقول : عربيه بـ 7000 جنيه.. مافيش – الحقيقة – النهارده عربية بـ7000 جنيه، العربيات أرخص من كده بِكْتِير».
لم تكن هذه هي كذبة الشيخ عاشور وإنما ما استرعى عبدالناصر هو تعريف عاشور عن نفسه وفي هذا قال جمال عبدالناصر «أمثال الشيخ عاشور ده كتير أوي في داخل الاتحاد الاشتراكى، لأن ده عضو مؤتمر قومي، مـع إنه وقف كِذِب وقال إنه واعظ، وهو ليس بواعظ، قالوا إنه مقيم شعائر بالمسجد».
ما حقيقة اعتقال الشيخ عاشور محمد نصر في رمضان ؟
تتفق المواقع الإخبارية على أن الشيخ عاشور محمد نصر تم اعتقاله عقب هذه الكلمة، إلا أن تلك المعلومة فيها أكثر من خلل تاريخي بالمراجع وليس عن طريق العنعنة.
تكلم وزير الداخلية شعراوي جمعة في مذكراته عن الشيخ عاشور محمد نصر واعتقاله فقال « لما أنهى الشيخ عاشور كلامه تحدثت مع عيسى شاهين أمين الاتحاد الاشتراكي في الإسكندرية وقلت له إن هذا الرجل أساء للمؤتمر القومي ووجوده غير مفيد، فقال لي إن كل ما يهم هذا الرجل هو الحصور على بدل السفر، فاتفقت مع عيسى شاهين على أن لا يحضر ويُصْرَف له بدل السفر، وبالفعل لم يحضر الشيخ عاشور وبقي في الإسكندرية، أما حسين الشافعي وزير الأوقاف فقرر نقل الشيخ عاشور من مسجد المرسي أبو العباس لمسجد سيدي بشر، وهو الشيء الذي أثار ثائرته كما ذكر شعراوي جمعة».
مجلة آخر ساعة عقب القضاء على حركة مراكز القوى عام 1971 في بداية السبعينيات قالت بأن شعراوي جمعة اعتقل عاشور، ولما اختلف عاشور مع السادات هاجمته نفس المجلة في منتصف السبعينيات ونفت أنه تم اعتقاله.
وزير الداخلية شعراوي جمعة في مذكراته قال أن اعتقال الشيخ نصر تم في منتصف عام 1970 م بسبب هجومه على عدم الموافقة على نقله من مسجد سيدي بشر لمسجد المرسي أبو العباس وخرج في عام 1971 م، بالتالي فإن اعتقال عاشور كما ذكر وزير الداخلية لم يتم بسبب كلمته وإنما بسبب عدم الموافقة على إعادته لمسجد المرسي أبو العباس.