تقرأ في هذا التقرير «تفاصيل تاريخ طبع المصاحف في مصر، قصة مصحف الملك فؤاد وواضعه، أثر مصحف الملك فؤاد في عملية تعليم الخط بمصر، من هو خطاط مصحف الملك فؤاد، العيوب العلمية لمصحف الملك فؤاد».
كتب | وسيم عفيفي
مرت طباعة المصاحف في مصر خلال حكم محمد علي باشا وأسرته (1805م – 1952م) بمراحل متعددة من التطور، وكان لها أثرها داخل المجتمع المصري.
لماذا تأخر مشروع طبع المصاحف في مصر ؟
دخلت المطبعة مصر عام 1798م زمن الحملة الفرنسية وكان اسمها في الإسكندرية المطبعة الشرقية الفرنسية، ولما دخلت القاهرة ووُضِعَت داخل منزل عثمان بك الأشقر في الأزبكية صار اسمها المطبعة الأهلية، وبعدها مغادرة الحملة للأراضي المصرية سنة 1801م اصطحب الفرنسيون المطبعة إلى أراضيهم.[1]
لم يطبع الفرنسيون المصحف طيلة وجودهم في مصر، باستثناء كتيب صغير عنوانه «تطبيقات في العربية الفصحى مختارة من القرآن لينتفع بها دارسو العربية»[2]، وبقي حال الطباعة متوقفًا في مصر إلى عصر محمد علي باشا.
مع عهد محمد علي باشا وتحديدًا في سبتمبر 1820م شُيِّدَ مبنى المطبعة في بولاق، وبعد عام تم وضع آلات الطبع فيها وتم الانتهاء من كل شيء يخصها في يناير 1822م، لتبدأ عملية الطباعة بين أغسطس وديسمبر من نفس العام.[3]
كان أول كتاب يصدر في تاريخ مطبعة بولاق هو قاموس عربي إيطالي، تأليف القس رافائيل زخور راهب، وفي عام 1824م طُبِعَت متون علم الصرف مثل شافية ابن الحاجب والتصريف العِزِّى للزنجاني بعناية شيخ الأزهر حسن العطار [4]، ثم كتاب عن صباغة الحرير، وبعده في عام 1828م طُبِع كتاب كلستان السعدي[5]، ثم كتابيّ ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة.[6]
اقرأ أيضًا
«شيخ الأزهر أعلن رفضه» حكاية طلب إلغاء تدريس العلوم الحديثة في شهر رمضان
بقي المصحف بعيدًا عن مشاريع الطبع منذ تأسيس مطبعة بولاق طيلة 10 سنوات، وذلك لاعتقاد علماء الأزهر بأن آلات الطبع نجسة ولا يجوز طبع القرآن الكريم بها.
طبع المصحف في عصر محمد علي باشا وعيوبه
ومع العام 1832م بدأ التفكير في طبع المصحف ونشرت مجلة الوقائع المصرية في 8 يناير 1832م / 4 شعبان 1247هـ ما يفيد بأن محمود أغا ناظر القلمخانة قدم عريضة لمجلس الجهادية التي تتبعها المطبعة، وتفيد أنه سُئِل عن كمية ما يلزم لتلاميذ المدرسة من أجزاء القرآن، وتمت الاستجابة من ناظر الجهادية وكلف عمر أفندي ناظر المهمات بصرف ما يلزم للتلامذة ومن ناحية أخرى، ثم قام محمد علي باشا بتكليف حبيب أفندي بمطالعة آلات الطباعة للتأكد من طهارتها سنة 1833م / 1248هـ، وأصدر الشيخ التميمي مفتي مصر فتواه بأن الطباعة جائزة شرعًا، وتطور الأمر بعدها لدرجة أن تأسست مطبعة للمصحف الشريف في بولاق وتولى رئاستها عبدالرحمن أفندي سنة 1845م / 1260هـ.[7]
رغم ذلك التطور الكبير الذي جرى في عصر محمد علي باشا لطبع المصاحف، لكنها كانت مليئة بالأخطاء أو بالأحرى بها مخالفات لعلم الرسمي العثماني، تلك العيوب جعلت الوالي عباس حلمي الأول يصدر قرارًا بمصادرة كل المصاحف المطبوعة ومنع تداولها وإعدامها بناءًا على توصية من علماء الأزهر في مايو 1853م / شعبان 1369هـ؛ لكن لم يتم حرق كل النسخ وإنما تم إيداعها في مخزن وزارة الداخلية.
وصل عدد المصاحف المصادرة حتى عهد الوالي محمد سعيد باشا إلى 269 مصحف، ولما أراد في عام 1855م / 1272هـ توزيع مصاحف على تلاميذ المدرسة الحربية سأل علماء الأزهر عن وضع المصاحف المصادرة فأفتوه بجواز تصحيحها وتعديلها، فقام الشيخ عبدالباقي الجاري بتصحيح 150 مصحف حتى يوم 23 مارس 1858م / 8 شعبان 1274هـ، وتصحيح 10 مصاحف في إبريل / رمضان من نفس العام، و57 مصحف ينتهي تصحيحهم في أغسطس من نفس العام / محرم 1275هـ؛ وتبين وجود 180 مصحف منقولين عن المصاحف التي بها أخطاء ويملكها الحاج عثمان، بينما يملك شخصًا آخر اسمه الحاج حسن 26 مصحفًا، فأمر الخديوي بتصحيح كل النسخ الموجودة في مصاحفهم على نفقة الدولة، وتوزيع مصاحف أخرى على المدارس والمساجد.
دخلت الجهود الذاتية بعد ذلك في طبع المصحف فأصدرت المطبعة البهية في القاهرة والمملوكة لمحمد أبو زيد سنة 1890م / 1308هـ، طبعةً من المصحف كتبها المحقق رضوان بن محمد المشهور بالمخللاتي وقال محمد بن سالم العوفي عنه «التزم المخللاتي بخصائص الرسم العثماني، واعتنى بأماكن الوقوف مميزًا كل وقف بعلامة دالة عليه، التاء للوقف التام، والكاف للكافي، والحاء للحسن، والصاد للصالح، والجيم للجائز، والميم للمفهوم، كما قدّم له بمقدمة ذكر فيها أنه حرر رسمه وضبطه على ما في كتاب المقنع للإمام الداني، وكتاب التنزيل لأبي داود، ولخص فيها تاريخ كتابة القرآن في العهد النبوي، وجمْعه في عهدَي أبي بكر وعثمان، كما لخص فيها مباحث الرسم والضبط، وكان المقدم على غيره من المصاحف».[8]
لكن عيب مصحف المخللاتي أن رداءة ورقه، وسوء طباعته الحجرية، دفعت مشيخة الأزهر إلى تكوين لجنة تضم: الشيخ محمد علي خلف الحسيني، الشهير بالحداد، والأساتذة: حفني ناصف، ومصطفى عناني، وأحمد الإسكندري؛ للنظر فيه، وفي ما ظهر من هنات في رسمه وضبطه، فكُتب مصحف بخط الشيخ محمد علي خلف الحسيني، على قواعد الرسم العثماني، وضُبط على ما يوافق رواية حفص عن عاصم، على حسب ما ورد في كتاب الطراز على ضبط الخراز للتَّنَسي، مع إبدال علامات الأندلسيين والمغاربة، بعلامات الخليل بن أحمد وتلاميذه من المشارقة، وظهرت الطبعة الأولى منه عام 1923م / 1342هـ، فتلقاها العالم الإسلامي بالرضا والقبول.
بعد نفاذ هذه الطبعة كوِّنت لجنة بإشراف شيخ الأزهر، وعضوية عدد من علمائه: الشيخ عبد الفتاح القاضي، والشيخ محمد علي النجار، والشيخ علي محمد الضبّاع، والشيخ عبد الحليم بسيوني، راجعت المصحف على أمهات كتب القراءات والرسم والضبط والتفسير وعلوم القرآن، وصححت ما في الطبعة الأولى من هنات في الرسم والضبط، وطبع طبعة ثانية مدققة ومحققة.
مصحف الملك فؤاد وحكايته وعيوبه
حدث تطور هام في تاريخ طبع المصاحف في مصر من خلال مصحف الملك فؤاد سنة 1921م عندما تم استدعاء الخطاط عبدالعزيز رفاعي من الآستانة إلى مصر بناءًا على أمر الملك فؤاد ليكتب مصحفًا، فنفذ ذلك خلال 6 أشهر وقام بتذويقه وتذهيبه خلال 8 أشهر؛ وذكر الشيخ علي جمعة أنه كان هناك لجنة برئاسة الشيخ محمد علي خلف الحسيني المعروف بالحداد وغضبت اللجنة المصرية فطلب الملك فؤاد من الخطاط التركي كتابة مصحف، ومن اللجنة المصرية كتابة مصحف آخر، كتبه الشيخ الحداد، وكان له مذهب خاص به في علامات التجويد الموجودة في المصحف.
وذكر الشيخ علي جمعة أن المصحف الذي كُتب بخط الشيخ الحداد يعد أفضل كتابة للمصحف المطبوع عبر التاريخ، وأدق من مصحف الملك فؤاد الذي كتبه عبدالعزيز أفندي، ونال في معرض فرانكفورت في ألمانيا عام 1922، المركز الأول في جودة كل شيء، الورق، والطباعة، والخط؛ مشيرًا إلى أنه في عصر الملك فاروق، طلب منه الشيخ محمد علي الضباع، تعديل المصحف الذي طبع في عهد الملك فؤاد نظرًا لمذهب الشيخ الحداد في علامات التجويد، الوقف والوصل وغير ذلك، وذلك لأن علامات الوقف في المصحف نحو 16 ألفًا ولم يلتزم بها الشيخ الحداد في عهد الملك فؤاد، نظرًا لمذهبه المختلف عن غيره في علامات الوقف، مشيرًا إلى أن الشيخ الضباع غير 850 موضعًا في علامات الوقف التي كانت موجودة في مصحف الملك فؤاد الذي كتبه الشيخ الحداد، ولفت إلى أن مطبعة الأزهر الشريف قلدت في هذا العصر نسخة الملك فاروق، مع إضافة بعض التعديلات.[9]
من هو كاتب مصحف الملك فؤاد ؟
مصحف الملك فؤاد الشهير كاتبه الشيخ محمد علي خلف الحسيني الحداد[10]، وهو من مواليد سنة 1865م / 1282هـ في قرية بني حسين محافظة أسيوط وحفظ القرآن قبل السن العاشرة ثم رحل إلى القاهرة سنة 1878م / 1294هـ في منزل عثمان أغا الرزاز بشارع التبانة من حي الدرب الأحمر وانضم للأزهر الشريف وعلم القرآن والتجويد وصار شيخًا لعموم المقارئ المصرية سنة 1905م / 1323هـ.
عندما كتب الشيخ الحداد مصحف الملك فؤاد أمر الملك ذهبًا بوزن المصحف فقال «نحن لا نشتري بآيات الله ثمنًا قليلاً»، وعرض عليه أحد الأثرياء أن يشتري النسخة مقابل 50 ألف جنيه لكنه رفض.
وساهم الحداد في تأسيس جمعيات المحافظة على القرآن الكريم، بالاشتراك مع علي بك حسن، ومحمد بك القاضي، وكان يحضر في لجان امتحانات مدرِّسيها وطلابها، كما كان يشرف على امتحان القرّاء الذين تُعيِّنهم وزارة الأوقاف لوظائفها؛ وكان له مؤلفات كثيرة منها «تجويد الكتاب المبين، إرشاد الإخوان لهداية الصبيان، إرشـاد الحـيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن، خلاصة النصوص الجلية في نزول القرآن وجمعه ووجوب اتباع رسم المصاحف العثمانية، السيوف الساحقة لمنكر نزول القراءات من الزنادقة، الكواكب الدرية فيما يتعلق بالمصاحف العثمانية، سعادة الدارين في بيان وعد آي معجز الثقلين، المواهب الربانية فيما يتعلق بالمصاحف العثمانية، شرح على الشاطبية؛ وتوفي الشيخ الحداد في 9 فبراير 1939م / 20 ذي الحجة 1357هـ عن عمر 57 سنة تاركًا 9 أولاد وبنتين.
أما كاتب نسخة مصحف الملك فؤاد بالذهب هو الخطاط التركي عبدالعزيز محمد عبدالعزيز الرفاعي، وهو من مواليد 1871م في منطقة ماتشكا في طرابزون بتركيا ووفيات 1936م، وقد جاء لمصر سنة 1921م وبقي في القاهرة لمدة 11 سنة يعمل في تدريس الخط بعد انتهاءه من كتابة المصحف، ثم طلب تقاعدًا من الحكومة المصرية في إبريل 1933م وتوفي في 16 أغسطس 1934م بتركيا ودفن في مقبرة إديرني كابي.[11]
نتائج مصحف الملك فؤاد بخط الخطاط التركي
كان من نتائج ما فعله مصحف الملك فؤاد بخط الخطاط التركي أن الملك أمر بافتتاح مدرسة لتحسين الخطوط العربية في أكتوبر سنة 1922م وألحقت بمدرسة خليل أغا واختير للتدريس فيها نخبة من الخطاطين المشهورين، ومن بينهم عبدالعزيز رفاعي أفندي.
ذكرت مجلة المصور[12] تفصيلاً هذا التطور حيث أمر الملك بفتح مدرسة أخرى، وأعدت المعدات اللازمة بمدرسة الشيخ صالح للبنين وافتتح القسم الجديد بهذه المدرسة في 3 فبراير سنة 1923م، وفي شهر يونيو سنة 1925م وعقب أن تخرجت أول دفعة من هذه المدارس أمر جلالته بإنشاء قسم جديد لتعليم هؤلاء المتخرجين فن التذهيب، فأنشئ ذلك القسم في أكتوبر سنة 1925م.
كانت مدة الدراسة في القسم الأول (قسم التخصص في الخطوط العادية) ثلاث سنوات، ويعقد في آخر كل سنة امتحان نهائي لمن أتموا الدراسة على الوجه المرضي ويمتحن الطلبة في كافة أنواع الخطوط، وتقوم بالامتحان لجنة مكونة من أربعة أساتذة اثنين منهم تنتخبهما وزارة المعارف، والاثنين الآخريين ينتخبهما الديوان من بين مدرسيه، ويمنح الديوان من ينجح شهادة خطاط؛ وقد عقد هذا الامتحان لأول مرة في شهر مايو سنة 1925م وقد بلغ عدد المتخرجين في هذا القسم 17 خريج حتى العام 1929م.
أما مدة الدراسة بقسم التذهيب فسنتان ويعقد في آخرها امتحان لمن أتموا الدراسة على الوجه المرضي وتقوم نفس اللجنة السابق ذكرها بهذا الامتحان أيضًا، وقد عقد هذا الامتحان لأول مرة في شهر مايو سنة 1928م وكان عدد الناجحين اثنين، وفي كل عام من سنوات حكم فؤاد كان يمنح أوائل الناجحين جوائز مالية تشجيعًا لهم وحثاً لغيرهم على الاقتداء بهم.
يمكن إدراك أهمية هذا التطور الذي أشرف عليه الملك فؤاد ومدير التعليم بمدارس الأوقاف الملكية بمعرفة أخبار المعرض الذي أقيم بدار المدرسة الثانوية الملكية في شهر فبراير سنة 1928م وقد عرضت فيه بعض نماذج من أعمال القسمين فكانت موضع إعجاب جميع من شاهدوا هذا المعرض، وكانت نية الملك فؤاد أن يتم مخاطبة وزارة المعارف العمومية في شأن الشبان الذين يتخرجون في هاتين المدرستين كي تعينهم في مدارسها كمعلمين للخط العربي في فصولها مكافأة لهم على جدهم واجتهادهم وحثًا لغيرهم على الاقتداء بهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] خليل صابات، تاريخ الطباعة في الشرق العربي، ط/2، دار المعارف، القاهرة، 1966م، ص ص131–143.
[2] جان كريستوفر هيرولد، بونابرت في مصر، ترجمة: فؤاد أندراوس، مراجعة: محمد أحمد أنيس، ط/1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مهرجان القراءة للجميع، القاهرة، 1998م، ص ص179–180.
[3] محرر، مراحل إنشاء مطبعة بولاق، موقع الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية.
[4] محمود محمد الطناحي، الكتاب المطبوع بمصر في القرن التاسع عشر .. تاريخ وتحليل، ط/1، دار الهلال، القاهرة، 1416هـ/1996م، ص28.
[5] هو كتاب في الأدب الفارسي ألفه سعد الشيرازي سنة 1258م؛ لمطالعة ترجمته انظر؛ كلستان روضة الورد، ترجمة: محمد الفراتي، ط/3، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2012م
[6] محرر، مراحل إنشاء مطبعة بولاق، موقع الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية.
[7] سماح عبدالمنعم السلاوي، تاريخ طباعة القرآن الكريم في مصر في عهد محمد علي باشا وأسرته، ط/1، ندوة طباعة القرآن الكريم ونشره بين الواقع والمأمول، مجمع الملك فهد، المدينة المنورة، 1435هـ / 2013م، ص ص24–26.
[8] محمد سالم بن شديد العوفي، تقرير حول تطور كتابة المصحف الشريف وطباعته وعناية المملكة العربية السعودية بطبعه ونشره، مجلة بحوث المدينة المنورة ودراساتها، عدد 1، 2002م، ص ص134–135.
[9] علي جمعة، موقف الملك فؤاد تجاه كتابة وطباعة المصحف الشريف، برنامج والله أعلم، قناة CBC، 4 مارس 2018م.
[10] حمد الله الصفتي، الأعمال الكاملة للعلامة المقرئ محمد بن علي بن خلف الحسيني الحداد شيخ عموم المقارئ المصرية، ط/1، دار الغوثاني للدراسات القرآنية، دمشق، 1431هـ / 2010م، ص ص10–20.
[11] محرر، الخطاط الشيخ محمد عبدالعزيز الرفاعي، موقع جمعية الخطاطين العراقيين، 5 يناير 2022م.
[12] محرر، عناية جلالة الملك بالخط الجميل .. من كتب لجلالته النسخة الخاصة به من المصحف الشريف، مجلة المصور، عدد 227، 15 فبراير 1929م، ص16.