تقرأ في هذا التقرير «كيف بدأت ثنائية تاريخ الأزهر وإيطاليا ؟، نظرية إنريكو إنساباتو التي بدأت من القاهرة، بيترو بيرتوليني يؤسس المواجهة، موسوليني يحارب الأزهر بالأزهر»
جاء العام 1911 ليرسم بداية تاريخ الأزهر وإيطاليا عندما اجتاح كارلو كانيفا القائد العسكري للمملكة الإيطالية كافة الأراضي الليبية، ومن قبل السنوات الأولى للاحتلال أدرك قادة إيطاليا خطورة الأزهر.
تاريخ الأزهر وإيطاليا .. تجميع الخيوط بليبيا
أعطى الظاهر بيبرس قبلة الحياة للأزهر بعدما أغلقه صلاح الدين الأيوبي، وجاء السلطان قايتباي ليحول مسار الأزهر علميًا ويمنحه الصفة العالمية فذهب له كل المسلمين الذين أرادوا التعليم وكان من ضمنهم شباب المغرب العربي الذين صار لهم رواق خاص بهم إسمه رواق المغاربة.
منذ العصر المملوكي وحتى اجتياح كارلو كانيفا للأراضي الليبية عام 1911 م كانت الثقافة الدينية الليبية كلها تبدأ من الأزهر وهو الشيء الذي كانت إيطاليا تدركه قبل إحتلالها للأراضي الليبية وكانت على يقين أن الليبيين سيقاوموهم بالجهاد وعلى هذا الإدارك قامت نظرية إنريكو إنساباتو.
إنريكو إنساباتو يزرع بذرة تاريخ الأزهر وإيطاليا بليبيا
تتمثل نظرية إنريكو إنساباتو في عدم البدء باحتلال ليبيا عسكريًا وإنما التمهيد لذلك الحدث إعلاميًا بشكل الترغيب وعرض الثقافة الإيطالية حتى لا تصطدم مع الأزهريين الليبيين.
ظاهريًا فإن إنريكو إنساباتو هو طبيب وجراح إيطالي جاء إلى مصر مطلع العام 1902 م، لكن باطنيًا فإن إنريكو كان صديقًا مقربًا لرئيس الوزراء الإيطالي جيوفاني جوليتي ويعتبر هو عراب الإحتلال الإيطالي لليبيا ويذكر المؤرخ عادل محمد محمد عثمان أن إنريكو قدم لجوليتي تقارير تؤكد ضرورة الإستفادة من مصر ومكانتها في خدمة المشروع الإيطالي داخل ليبيا ووصف القاهرة بأنها الدماغ المفكر في العالم الإسلامي.
أعطى جيوفاني الضوء الأخضر لإرنيكو فأسس الأخير مجلة اسمها النادي سنة 1904 م وكتب فيها رموز من العلماء ذكر أسماءهم المؤرخ عادل محمد محمد عثمان فكانوا محمد علي علوي الأزهري الذي كان يعمل في القنصلية الإيطالية، وعبدالرحمن محمد عليش والشيخ محمد التاجوري.
وظل الترويج لإيطاليا موجودًا عبر مجلة النادي إلى أن وقع الإحتلال الإيطالي على ليبيا فكان طلاب ليبيا من الأزهريين عكس بعض شيوخهم، إذ عارضوا الإحتلال الإيطالي منذ لحظته الأولى واندلعت أعمال مظاهرات داخل الأزهر تدين الإحتلال الإيطالي وكتبوا مقالات في الصحف المصرية الشهيرة أبرزها جريدة الأهرام في 30 سبتمبر 1911 و 7 أكتوبر 1911 م، ولم تهدأ المظاهرات يومًا من الأزهر، فجاء رد الفعل الإيطالي مختلفًا عبر فلسفة بيترو بيرتوليني وزير المستعمرات الذي قرر أن يناصب الأزهر العداء.
بيترو بيرتوليني وتأسيس المواجهة
بعد عام واحد من وقوع ليبيا في براثن الإحتلال الإيطالي قرر جيوفاني جيوليتي رئيس الحكومة استحداث وزارة سماها وزارة المستعمرات وجعل بيترو بيرتوليني مسؤولاً عنها سنة 1912 م.
اقرأ أيضًا
الأذان الشيعي في الأزهر «أيهما كان أولاً داخل مصر على يد الدولة الفاطمية ؟»
مع الأسابيع الأولى لـ بيترو بيرتوليني في منصبه كوزير للمستعمرات أعلن العداء الكامل للأزهر، فيذكر ليونارد ألبان أبليتون في كتاب سياسة التعليم الإيطالية إزاء العرب الليبيين أن وزير المستعمرات الإيطالية كان يرى في الأزهر أنه مركزًا القومية والوحدة ووصفه بأنه ينشر الأفكار الهدامة (بحسب وصفه لدور الأزهر في تعبئة جهاد الليبيين ضد الإيطاليين)، فشدد على ضرورة إبعاد الليبيين عن الإلتحاق بالأزهر وتأسيس مدرسة عليا للثقافة الإسلامية.
تأخر تنفيذ ذلك الإقتراح 23 سنة فالليبيين أدركوا نية الاحتلال الإيطالي، أما الإيطاليين فكانوا يعلمون استحالة تنفيذ هذا الاقتراح بشكل سريع وذلك لأن تأسيس مدرسة إسلامية برعاية إيطالية يقوم على الاستعانة بأزهريين ليبيين من مصر ضدهم، فقرروا زرع رجال لهم داخل الأزهر، يتعلمون الدين ويدرسونه لكن هواهم السياسي يتبع الإحتلال وهو ما نجح فيه موسوليني.
بينيتو موسوليني والعداء مع الأزهر بالأزهر
نجحت الرابطة القومية الإيطالية في أن يخرج منها رئيسًا لحكومة إيطاليا بعدما كان التنافس على المنصب بين الاتحاد الليبرالي والحزب الراديكالي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، فجاء بينيتو موسوليني رئيسًا للحكومة سنة 1922 م وظل في منصبه ذلك حتى منتصف الحرب العالمية الثانية.
كان الأزهر ضمن أعمال جدول موسوليني منذ توليه المنصب لكن تأجلت محاربته حتى جاء عام 1935 وقرر أن يكلف إيتالو بالبو حاكم ليبيا الإيطالي بمشروع بيترو بيرتوليني المتعلق بتأسيس مدرسة إسلامية هدفها منع الليبيين من التعليم داخل الأزهر، فجاءت المدرسة الإسلامية العليا والتي تم افتتاحها في 11 يناير 1936 م.
بنيت المدرسة الإسلامية العليا في مدينة الظهرة وكان المصمم الهندسي لها هو المعماري فلوريستانو دي فاوستو وتم اقتباس نظام الدراسة فيها من نظام جامعة الأزهر الدراسي التي تأسست عام 1934 م خلف الجامع.
تم اختيار الشيخ أحمد الفساطوي رئيسًا للمدرسة منذ بدء الدراسة فيها، وكان أبرز علماءها في الدفعة الأولى كل من « محمد مسعود فشيكه للتاريخ ومحمد المصراتي للقرآن وتجويده والفقه المالكي، ومحمود المسلاتي للغة العربي وعلي حيدر السعاتي للخط والحساب ومصطفى القلالي للرياضيات، وبروني الإيطالي للمنطق واللغة الإيطالية، وطاهر باكير للتربية والأخلاق، وأبو قاسم تنتوش ومنير برشان».
ولترغيب الليبيين في الدراسة بتلك المدرسة لجأت إيطاليا إلى سياستين، أولهما الترغيب وثانيهما الترويج للترغيب، فكان الترغيب متركزًا على أن الحاصل على شهادة من تلك المدرسة يحق له العمل في القضاء الشرعي أو أي وظيفة إدارية في ليبيا.
أما سياسة الترويج للترغيب فكانت تتم عبر عملاء إيطاليا من الأزهريين وعلى رأسهم الشيخ محمد نور بكر الذي كان شيخًا لرواق الجبرتي في الجامع الأزهر وله كتابين في حب إيطاليا أولهما كتاب إيطاليا في مستعمراتها، وثانيهما كتاب ليبيا الإيطالية رقيها عمرانيًا واجتماعيًا وثقافيًا.
رغم وجود عملاء كثر لإيطاليا داخل الأزهر مثل محمد عثمان إبحيح، بل وحتى طلبة ليبيين يتجسسون على زملائهم، إلا أن محمد نور بكر كان أشد عملاء إيطاليا من الأزهريين الليبيين وضاعةً إذ نفى كل الاتهامات التي تنال إيطاليا من القتل وتجريف الأراضي وهدم المنشآت الإسلامية ووصف معارضيهم بالمرجفين في مصر والأزهر.
الدوافع وراء استماتة محمد عثمان بكر للدفاع عن إيطاليا ترجع إلى أن جذور الرجل من بلدة جبرت الصومالية وكانت تخضع لحكم الحبشة والتي أذاقتها الويلات، فلما قام الإيطاليين باحتلال إثيوبيا سنة 1935 جعل من نفسه البوق الإعلامية للفاشية.
رغم كل تلك الإجراءات فإن أيًا منها لم يجعل هدف موسوليني يتحقق، إذ استمر توافد الليبيين على الأزهر، فقرر ديكتاتور إيطاليا أن يفرض سطوته على البريد الليبي وأصدر أمرًا يقضي بمنع إرسال الحوالات المالية البريدية من الأهالي إلى أولادهم في الأزهر.
الأزهر يتدخل
لم يكن للمؤسسة الأزهرية أن تتدخل على نحو يجعلها تنال اتهام التدخل في الشئون الداخلية، خاصةً وأن ليبيا لها قنصلية وهي التي تتولى رعاية الطلاب في مصر، والعلاقات بين مصر وإيطاليا جيدة.
لكن ذلك التصرف لم يجدي نفعًا فأعلنت مشيخة الأزهر استعدادها بتكفل مصاريف الطلبة الليبيين وهو ما يعني إدانة كلٍ من القصر الملكي والحكومة المصرية، فقررت إيطاليا إرسال الحوالات رغم تأكيدها بأن الأهالي يمتنعون عن إرسال الأموال لأولادهم لرغبتهم في ترك مصر والالتحاق بالمدرسة التي أسستها إيطاليا.
تفاقمت المواجهة أكثر بين مؤسسة الأزهر وموسوليني عندما دخل شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي في مواجهة مباشرة مع الدوتشي إعلاميًا عندما نشر بيانًا على جريدة سيدني مورنينج هيرالد الإيطالية سخر فيه من إعلان موسوليني نفسه خليفةً على المسلمين عام 1937 م، وبعد 3 أعوام فشلت خطة موسوليني في منع الليبيين من الدراسة بالأزهر إذ أغلقت المدرسة العليا في ليبيا وبدأت نهاية الفاشية مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أما المدرسة فتمت تسميتها بعد استقلال ليبيا بمعهد الإمام مالك بن أنس الديني وبقيت على هذا الحال حتى تم إغلاقها نهائيًا سنة 1983 م، ثم خضعت لصيانة من أهالي منطقة الظهرة عام 2010 م.
[ المراجع ]
- تاريخ ليبيا المعاصر السياسي والإجتماعي (1922-1948) لـ مختار الهادي بن يونس
- سياسة التعليم الإيطالية إزاء العرب الليبيين (1911-1922) لـ ليونارد إبلتون
- إيطاليا والطلبة الليبيين في مصر (1912 -1939) لـ عادل محمد محمد عثمان
- الدعاية لإيطاليا الفاشية في مؤلفات الشيخ محمد نور بكر لـ وفاء بلعيد القايد