تقرأ في هذا التقرير «همزة الوصل بين أحمد رزق في فيلم الممر وجمال الغيطاني ، رسائل الممر من شخصية أحمد رزق، لماذا الغيطاني هو الأشهر ؟»
كتب | وسيم عفيفي
أثار الفنان أحمد رزق الجدل في فيلم الممر منذ طرح أفيشه حيث تكهن البعض أنه سيؤدي شخصية جندي في الجيش المصري بوزنٍ زائد، فيما راح آخرون لتخيل تكرار شكل إسماعيل ياسين لإضفاء الكوميديا من أجل تخفيف أجواء الحزن والحماسة.
اقرأ أيضًا
مشهد السنترال في فيلم الممر «قصة حقيقية تعامل معها ناصر بطريقته»
بعد عرض فيلم الممر استاء بعض الصحفيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي من شخصية أحمد رزق في فيلم الممر على أساس أنه أظهر ضحالة المراسل الحربي الصحفي ـ حسب فهمهم ـ، غير أن قراءة ما بين السطور في الدور بمجهر التاريخ يُظْهر أن رزق قدم دورًا هو الأفضل على الإطلاق في شخصية المراسل الحربي التي سبق وأن قدمتها ماجدة في فيلم العمر لحظة وأحمد الدمرداش بمسلسل الليل وآخره.
إحسان الفيلم أمام إحسان الحقيقي
شاب فاشل في الصحافة وفي كل حياته ينتظر فرصة لإثبات ذاته فذهب للبحث عنها وظن أنها ستكون في ملهى ليلي عبر الراقصتين «عزيزة الرعاشة وروحية معدمكش»، لكن الفشل مصيره هناك، فهو بدأ في الترويج لراقصات مغمورات في ظروف هزيمة بلد حتى وقع له الحادث الذي كاد يقضي على حياته لحين أن جاءته فرصة العمل كمراسل حربي.
تلك هي قصة الصحفي إحسان التي جسدها الفنان أحمد رزق في فيلم الممر، لكن شخصية المراسل الحربي زمن الستينيات كانت لها أبعادًا تاريخيةً أخرى، فقد خرجَّت الصحافة منذ يونيو 1967 حتى نصر أكتوبر 1973م جيلاً من المراسلين الحربيين وصاروا فيما بعد رموز صحفية كبيرة مثل حمدي الكنيسي وصلاح قبضايا وعبده مباشر، بل كان هناك أيضًا فنانين عملوا في بداية حياتهم مراسلين صحفيين مثل الراحل سعيد عبدالغني، لكن يبقى جمال الغيطاني أحد أبرز رموز المراسلين الحربيين.
الأديب الراحل جمال الغيطاني هو النموذج الأقرب لشخصية إحسان من حيث الغاية والهدف والظروف المجتمعية ـ لا الشخصية ـ؛ فجمال الغيطاني تأثر بالفترة التي عملها فيها كمراسل حربي لأخبار اليوم، جعلته يكتب كتابين أولهما «المصريون والحرب من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر»، وثانيهما بعنوان «حراس البوابة الشرقية» عن القوات العراقية في أكتوبر.
اقرأ أيضًا
ملقن أم كلثوم في أغنية جيش العروبة يتحدث «خاطرة لن ينشرها»
جيل جمال الغيطاني بعد النكسة «صحفيًا» استطاع أحمد رزق أن يظهره بشكل غير مباشر في الممر، فإحسان ذهب راكضًا للجريدة بعد الحادث ليجد زملاءه رفضوا مهمة المراسل الحربي لكنه وافق عليها وسعى إليها لأنه اعتبارها علامة لتغيير حياته.
الأمر نفسه حدث مع جمال الغيطاني الباحث عن ذاته المدفونة فهو يعمل كمصمم للسجاد الشرقي في مؤسسة التعاون الإنتاجية بالتزامن مع عمله صحفيًا في دار أخبار اليوم قسم المعلومات بتزكية من الصحفي محمود أمين العالم؛ وفي نفس ذات الوقت تشغله أخبار أتون المعارك الضارية على سيناء بعيدًا عن صخب القاهرة الذي يعشقه فالتناقض بين حال العاصمة وسخونة الجبهة جعله يشعر بألم روحي؛ فافتعل مشكلة ليسافر إلى بورسعيد نهاية 1967 ليجد المأساة.
قمة مآسي جيل جمال الغيطاني التي عبر عنها أحمد رزق في فيلم الممر هو حال الصحافة بعد النكسة، فالوسط الصحفي الذي عمل فيه إحسان إما تفرغ للأخبار الهابطة أو استمر في مفرمة التعليمات السياسية ويدلل على ذلك حواره مع المجندين حول تعامل السلطة مع الصحافة ونظرتها، فإما تحوير أو تزييف أو حقيقة.
في جيل جمال الغيطاني الذي بدأ يعمل صحفيًا في مؤسسة أخبار اليوم قسم المعلومات سنة 1969 م، حدثت تطورات جذرية، فقد قرر جمال عبدالناصر إبعاد محمود أمين العالم من رئاسة مجلس إدارة دار أخبار اليوم مع عددًا من اليساريين وتوقع جمال الغيطاني أن يشمله قرار الفصل على اعتبار أنه معين من محمود أمين العالم، وظلت الصحافة تموج بالتغيرات التي كادت أن تعصف بالغيطاني لولا استدعاء موسى صبري له والذي أبدى إعجابه بكتاب «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، وعرض عليه أن يترك قسم المعلومات ويعمل صحفي تقارير.
تبعثر ذات جمال الغيطاني مع هذا العرض، فالعمل في قسم التقارير هو حلم بالنسبة لجيله، لكن الغيطاني لا ينسى مقولة الروائي إرنست همنجواي «العمل الصحفي يدمر الذاكرة»؛ وكاد الغيطاني أن يرفض لولا نصيحة الكاتب الصحفي محمد عودة أن التقارير تعطي التجربة.
كانت تجربة إحسان في فيلم الممر ثرية وغير متوقعة، فهو تعود على صخب القاهرة وفجأة وجد نفسه في الصحراء وقت الحرب بين جنود ذاهبين إلى الموت الذي يطير حولهم ويحيط بهم، وكل شخص منهم له قصة وحكاية، تجربة جعلت إحسان يستعمل السلاح ويقتل إسرائيليًا بعدما اعتاد مسك القلم لصياغة خبر.
اقرأ أيضًا
ضرب الطائرات على الأرض في فيلم الممر «60 ثانية موسيقى تحكي تاريخ»
وافق جمال الغيطاني على العمل في قسم التقارير من أجل التجربة، فمهنته كمصمم للسجاد الشرقي فتحت مداركه وهو في قسم المعلومات، فظن أن قسم التقارير سيعطي له تفاصيل جديدة عن الحياة عبر الصحافة الميدانية، لكنه فوجئ بأن التجربة لن تكون إلا في الجبهة.
جاء عادل حسين رئيس قسم التقارير والتحقيقات إلى الغيطاني يخبره أنه سيكون مراسلا حربيًا مع كتيبة من صحفيي أخبار اليوم على رأسهم أحمد زين وصلاح قبضايا والرسام مصطفى حسين والصحفي مصطفى شردي.
مكث جمال الغيطاني في أيامه الأولى كمراسل صحفي يعاين التجربة التي لم يتخيل يومًا أن يخوض غمارها، فهو معفي من التجنيد لضعف بصره، لكنه أحس برغبته في التعرف على ظروف حرب الاستنزاف وعاد إلى القاهرة كما يحكي وهو مفعم بالحماسة فكتب تحقيقًا في الصفحة الثالثة بعنوان «المقاتل المصري كما رأيته على خط النار»، وكرر التجربة مرتين أواخر 1969 في تغطيته للعيد مع المقاتلين.
لم تكد تمضي أسابيع على تقارير جمال الغيطاني حتى استدعاه موسى صبري رئيس التحرير وأعطاه خطابا موجها إلى إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة يطلب فيه اعتماده كمحرر عسكري للأخبار.
رسائل فيلم الممر من شخصية إحسان بتاريخ الغيطاني
أول رسالة من دور أحمد رزق هي «لا تقتل فكرة مبدع حتى لو كان مدنيًا طالما عنده وطنية وعزم»؛ فقد كانت شخصية إحسان التي مثلها أحمد رزق في فيلم الممر منبوذة منذ اللحظة الأولى لأسباب جسمانية، وهذا مفهوم وهو نفسه توقع هذا، لكنه استغرب من نبذ الجنود وبعض الضباط له طوال الطريق لمعسكر الأسرى، حتى تسبب لهم في مشكلة عن غير قصد واقترح هو حلها بفكرة رفضها الضباط لكن أعجب بها القائد وطورها.
الأمر نفسه حدث مع جمال الغيطاني، فهو بسبب التقارير الأمنية صُنِفَ كصحفي من اليساريين بسبب صلته بمحمود أمين العالِم وكاد أن يفصل، ولما عمل مراسلاً حربيًا لقيت تقاريره الحربية إعجاب من جمال عبدالناصر نفسه؛ وفق ما حكاه جمال الغيطاني والذي روى أن المشير محمد فوزي كشف له إعجاب ناصر بتقاريره الصحفية قائلاً «هذه الكتابة هي التي نحتاجها عن الرجال».
الرسالة الثانية «دعه يسأل حتى يفهم من أجل أن يوعي الناس»، فالصحفي إحسان كان يطرح أسئلة في عُرْف العسكريين «أسئلة نشاز»، مثل «طب لما انتو فيكم الروح دي اتهزمتوا ليه؟، ليه هتضحوا بنفسكم عشان خاطر البلد وانتو مخدتوش منها حاجة ؟»؛ لكن الإجابات التي تلقاها نفعته في خاطره وأفادت القادة حيث عرف الشعب بوطنيتهم.
هو نفسه الأمر الذي حدث مع جمال الغيطاني، فإرثه العسكري بالكتابة هو أحد أهم أعمدة التعرف على وضع القوات المسلحة معنويًا وكان واجهة إعادة الثقة بين الجيش والشعب بعد الشرخ الذي أصاب الثقة بفعل النكسة.
ثالث تلك الرسائل وآخرها «لا تقتل روح الإبداع»، لم ينشغل إحسان بتصوير معدات الجيش ولا قوة مقاتليه وإنما ركز على لحظاتهم الإنسانية بالكاميرا التي التقط من خلالها صورًا وهم يشاهدون فيلم رصيف نمرة خمسة، وبمناقشة هلال السوهاجي الرافض للعودة بسبب عار الهزيمة.
الأمر نفسه الذي اهتم به جمال الغيطاني في كتاباته التي تعد وصفًا دقيقًا لروح المقاتل في زمن تفشت فيه الانهزامية وروح تثبيط العزيمة.