تقرأ في هذا التقرير «عنوان قبر طلعت حرب وحالته، يوم أن مؤسس أشهر اقتصاديو مصر، سيرة ومسيرة طلعت باشا حرب، دور بنك مصر في الحياة المصرية»
كتب | وسيم عفيفي
بين وفاة الاقتصادي الكبير طلعت حرب وإعلان رجوعه عبر إعلانات بنك مصر 76 عاماً، تعرضت فيها مصر لتغيرات اقتصادية متباينة، غير أن التميز كان عقب حملة طلعت حرب راجع حيث بات الناس يبحثون عن طلعت حرب نفسه بعد أن كان مجرد تمثال موجود في ميدان يحمل اسمه، ووصل عدد نسبة البحث عنه عبر جوجل تتجاوز الـ 5 مليون إلى الآن.
يوم وفاة طلعت حرب
يوم 14 أغسطس سنة 1946 م، دُفِن طلعت حرب الثرى بعد أن شيعت جنازته من ميدان باب الحديد (رمسيس حالياً) في جنازة مهيبة حضرها مندوب الملك ومصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء والعديد من الشخصيات السياسية على رأسهم أحمد ماهر باشا وأحمد حسنين باشا وشيخ الأزهر مصطفى المراغي ووكيل بطركية الأقباط ومفتي الديار المصرية وشيخ المشايخ الصوفية، فضلاً عن العديد من كبار الموظفين الحكومة والمفوضيات الأجنبية وأعضاء مجلس إدارة وموظفي بنك مصر؛ ونعاه من الشعراء بقصائد رثاء مثل عباس العقاد وإحسان عبد القدوس وصالح جودت.
قبر طلعت حرب
في صحراء المماليك بمنطقة مقابر صلاح سالم وإلى جانب أكاديمية الإمام الرائد للدراسات الصوفية وعلوم التراث شُيَّد قبر الاقتصادي الكبير طلعت حرب وسط إهمال من الجهات المسؤلة فهو لم يلقى الاهتمام الذي لاقاه مصطفى باشا كامل أو سعد زغلول، فالمكان مغلق ولا يتحول إلى متحف، فضلاً عن الحالة المعمارية التي يتسم بها.
طلعت حرب .. السيرة والمسيرة
ولد طلعت حرب في 25 نوفمبر عام 1867 بمنطقة الجمالية بالقاهرة، أنهى دراسته الثانوية بمدرسة التوفيقية ، ثم حصل على شهادة الحقوق من مدرسة الحقوق عام 1889م.
اهتم بالإضافة لدراسة الحقوق بدراسة الأمور الاقتصادية ، وأيضاً الإطلاع على العديد من الكتب في مختلف مجالات المعرفة والعلوم ، وقام بدراسة اللغة الفرنسية حتى أجادها إجادة تامة.
بدأ طلعت حرب حياته العملية مترجماً بقلم القضايا بالدائرة السنية التي كانت تتولى الأراضي الزراعية المملوكة للدولة ، ثم تدرج في المناصب حتى عين مديراً لأقلام القضايا ، عمل بعد ذلك مديرا لشركة كوم امبو و التي كان مجال نشاطها في استصلاح وبيع الأراضي ، ثم مديراً للشركة العقارية المصرية وكانت تعمل في مجال تقسيم و بيع الأراضي و عمل على تمصيرها حتى أصبحت غالبية أسهمها للمصريين.
طلعت حرب والاقتصاد .. هنا بدأت الحكاية
في عام 1911 قدم طلعت حرب رؤيته الفكرية واجتهاداته النظرية عن كيفية إحداث ثورته الثقافية وذلك من خلال كتابه «علاج مصر الاقتصادي وإنشاء بنك للمصريين»، وبعد عام قدم طلعت حرب كتابه «قناة السويس» وذلك لتفنيد دعاوي إنجلترا وفرنسا لتمديد عقد احتكار القناة لمدة 40 سنة أخرى بعد الـ 99 سنة التي تنتهي في عام 1968 وقد نجحت حملة طلعت في القضاء على هذا المخطط الاستعماري في مهده.
وقد كان طلعت حرب ميالا للفلاحين والغلابة ويدافع عنهم فعند تصفية الدائرة السنية سعى إلى بيع الأراضي إلى الفلاحين الذين يزرعونها ونجح في ذلك مما يؤكد نزعته الاشتراكية التي لم يسع أبدا إلى قولبتها في قوالب سابقة التجهيز ولكنها كانت اشتراكية تنبع من الأرض المصرية.
فكرة بنك مصر
بعد أن أعلن طلعت حرب عن فكرته في ضرورة إنشاء بنك للمصريين انعقد المؤتمر الوطني عام 1911 للنظر في مشكلات مصر الاجتماعية وقرر المجتمعون تنفيذ فكرة حرب في إنشاء بنك مصر وقد تعطلت عملية إنشاء البنك بسبب الحرب العالمية الأولى.
وعندما انتهت الحرب دون أن تحصل مصر على استقلالها السياسي انفجرت ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول وأثناء الثورة دعا طلعت حرب أبناء مصر إلى الكفاح ضد سيطرة الأجانب الاقتصادية على المقدرات المصرية وينجح طلعت حرب في إنشاء بنك مصر عام 1920 حيث تم الاحتفال بتأسيسه مساء الجمعة 7 مايو 1920 في دار الأوبرا السلطانية، وذلك برأس مال 180 ألف جنيه وتم تحديد قيمة السهم بأربعة جنيهات مصرية ، وفي نهاية عامه الأول ارتفع رأس مال البنك إلى 175 ألف جنيه ثم إلى نصف مليون جنيه عام 1925 ، ثم إلى مليون جنيه عام 1932 ، وقد بدأ بنك مصر في ركن متواضع من أوطان شارع الشيخ أبي السباع.
دور بنك مصر في حياة مصر المعاصرة
يعد إنشاء بنك مصر في أوائل القرن العشرين بمثابة بداية الاستقلال الاقتصادي لمصر، كما كانت ثورة 1919 م بداية الاستقلال السياسي؛ وأجمل ما في قصة إنشاء بنك مصر هي أنها كانت تعبير صادق و جلي عن مدي النضج الفكري الذي وصل إليه الشعب المصري في أوائل القرن العشرين، فالشعب المصري الذي خرج في ثورة 1919 م لم يكن فقط يتمتع بوعي سياسي كبير وإنما كان لديه وعي و فهم لتحرير و تطوير المجالات الأخرى الاقتصادية والفنية وغيرها بدرجة لا تقل عن وعيه السياسي.
وفي 5 أبريل 1920 م ، صدر المرسوم السلطاني من سلطان مصر أحمد فؤاد، بتأسيس شركة مساهمة تدعي بنك مصر من خمس مساهمين مصريين هم: أحمد مدحت يكن باشا، يوسف أصلان قطاوي باشا وهو من كبار الأعيان اليهود المصريين، ومحمد طلعت حرب بك، وعبد العظيم المصري بك، وعبد الحميد السيوفي بك، والطبيب فؤاد سلطان بك، واسكندر مسيحة أفندي، وعباس بسيوني الخطيب أفندي.
وقد قام بنك مصر برسالته الوطنية في تنمية الودائع علاوة على أرباحه التي استثمرها في إنشاء أكثر من عشرين شركة مصرية، ومع تأسيس البنك رفض طلعت حرب رئاسة بنك مصر وترك المنصب لأحمد مدحت باشا يكن، واكتفى هو بمنصب نائب الرئيس والعضو المنتدب، وقد استدعى الخبير الألماني فون أنار لوضع النظم الداخلية للبنك، وفي نفس الوقت أرسل بعثات من شباب مصر إلى إنجلترا وسويسرا وألمانيا للتدريب العملي على العمل المصرفي، وقد عاد جميع المصريين ليعملوا في بنك مصر، وسريعا ما انتقل بنك مصر من مقره المتواضع إلى مقره الحالي في شارع محمد فريد وانتشرت فروع البنك لتصل إلى 37 وحدة مصرفية في عام 1938، واهتم طلعت حرب بالمظهر الخارجي لمنشآت بنك مصر فجعل جميع مباني البنك ذات نمط معماري واحد.
استطاع بنك مصر وشركاته امتصاص جزء كبير من البطالة حيث زادت ودائع البنك مقارنة بكل البنوك الأجنبية العاملة في مصر مما أنهى مقولة الاستعمار والتي كانت تردد في ذلك الوقت «المصري لا يعرف إلا الاستدانة»؛ ونجح بنك مصر في تحفيز الادخار لدى كل المصريين حتى الأطفال بعد أن وزع البنك حصالات على تلاميذ المدارس الابتدائية ثم يأخذ ما فيها ويفتح للأطفال دفاتر توفير بالبنك.
بعد عامين فقط من إنشاء بنك مصر قام طلعت حرب بإنشاء أول مطبعة مصرية برأس مال قدره خمسة آلاف جنيه، وذلك ليدعم الفكر والأدب ويقوي المقاومة الوطنية حيث كان يؤكد على أهمية أن تكون القراءة في أيدينا وليس في يد الأجنبي.
وبعد إنشاء المطبعة توالت الشركات المصرية التي ينشئها البنك مثل شركة مصر للنقل البري التي قامت بشراء أول حافلات لنقل الركاب والتي ظهرت في فيلم الوردة البيضاء للموسيقار محمد عبد الوهاب، وقامت الشركة بشراء الشاحنات الكبيرة لنقل البضائع من الموانئ كما أنشأ البنك شركة مصر للنقل النهري ثم شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى واستقدم طلعت حرب خبراء هذه الصناعة من بلجيكا وأرسل بعثات العمال والفنيين للتدريب في الخارج، كما أقام مصنعا لحلج القطن في بني سويف، وأنشأ البنك مخازن لجمع القطن في كل محافظات مصر.
وسعى طلعت حرب لإنشاء شركة مصرية للطيران إلى أن صدر في 27 مايو 32 مرسوم ملكي بإنشاء شركة مصر للطيران كأول شركة طيران في الشرق الأوسط برأس مال 20 ألف جنيه، وبعد عشرة أشهر زاد رأس المال إلى 75 ألف جنيه، وقد بدأت الشركة بطائرتين من طراز دراجون موت ذات المحركين تسع كل منها لثمانية ركاب، وكان أول خط من القاهرة إلى الإسكندرية ثم مرسى مطروح، وكان الخط الثاني من القاهرة إلى أسوان، وفي عام 1934 بدأ أول خط خارجي للشركة من القاهرة إلى القدس.
نهاية مسيرة طلعت حرب الاقتصادية
على الرغم من النجاح الذي حققه طلعت حرب من خلال بنك مصر والإنجازات الاقتصادية الهائلة التي تم تحقيقها، إلا أن البنك تعرض لأزمة مالية كبيرة كان الاحتلال البريطاني ورائها ، حيث تسارع آلاف المودعين بسحب أموالهم من البنك ومما زاد الأزمة سحب صندوق توفير البريد لكل ودائعه من بنك مصر، ورفض البنك الأهلي أن يقرضه بضمان محفظة الأوراق المالية، وعندما ذهب طلعت حرب إلى وزير المالية حينذاك حسين سري باشا لحل هذه المشكلة، كان الشرط الوحيد الذي قدمه الوزير لحل أزمة البنك هو تقديم طلعت حرب لاستقالته.
قدم طلعت حرب استقالته للمحافظة على البنك هذا الإنجاز العظيم الذي قام بتقديمه للمصريين ، والذي استمر يقدم خدماته إلى المواطن المصري ورمزاً وتخليداً لذكرى واحد من أبرز الاقتصاديين الذين عرفتهم مصر ، ومن أقواله الشهيرة في هذا الموقف هو «فليذهب طلعت حرب و ليبق بنك مصر»؛ وتوفى طلعت حرب في 21 أغسطس عام 1941م.