كتب ـ وسيم عفيفي
كان فترة الحملة الفرنسية عام 1798 بقيادة الجنرال ” نابليون بونابرت آثارها السياسية و الاجتماعية والفكرية العميقة في تاريخ مصر الحديث، وقد أثارت هذه الحملة اهتمام كثير من المستشرقين، كما حظيت باهتمام المؤرخين المصريين وعلى رأسهم العلامة “عبد الرحمن الجبرتي” .
يتيح تاريخ عرفة عبده علي في مقاله بالأهرام العربي تفاصيل لكيفية احتفال نابليون بتلك المناسبة .
ففي شهر أغسطس 1798 وهو الشهر التالى لدخوله القاهرة حلت مناسبة دينية يحتفل بها المصريون احتفالاً شعبياً واسعاً، وهي المولد النبوي الشريف، وكان الاتجاه العام لدى الشعب هو عدم إقامة احتفالات في هذه الذكرى الكريمة نظراً للظروف العصيبة التي كانت تجتازها البلاد وقتذاك، ولعل هذا الموقف السلبي في تلك المناسبة الدينية كان تعبيراً شعبياً دينياً عن السخط على الحكم الفرنسي .
![نابليون بونابرت](http://www.toraseyat.com/wp-content/uploads/2017/05/نابليون-بونابرت-1024x683.jpg)
نابليون بونابرت
كان هذا الموقف من ناحية أخرى يتعارض تماماً مع سياسة بونابرت الإسلامية، ومن ثم أمر بأن تقام احتفالات كبرى، تفوق في روعتها وبهائها الاحتفالات التي كانت تقام في هذه المناسبة على عهود السلاطين المملليك، وغيرهم من الحكام المسلمين كما أمر أن يشترك الجيش و الموسيقات العسكرية في الاحتفالات، وأن تطلق المدافع نهاراً، والألعاب النارية والصواريخ ليلاً، وأن تعلق أمام مقر القيادة العامة للجيش الفرنسي في الأزبكية قناديل ذات زجاج متعدد الألوان، لتبدو في غاية البهجة عند إضاءتها ليلاً .
![الشيخ خليل البكري](http://www.toraseyat.com/wp-content/uploads/2017/11/الشيخ-خليل-البكري.jpg)
الشيخ خليل البكري
و أصدر بونابرت قراراً بتعيين السيد خليل البكري نقيباً للأشراف، وذهب بنفسه إلى دار الشيخ خليل البكري، حيث كان المشايخ أعضاء الديوان قد سبقوه إلىها، وهناك وفي حضورهم خلع بونابرت خلعة ثمينة على النقيب الجديد، وكان هذا الإجراء بمثابة إعلام رسمي بتقلده المنصب، وممارسته لسلطات وظيفته .
ويقول الجبرتي: “وفي ذلك اليوم ألبس الشيخ خليل البكري فروة وتقلد نقابة الأشراف ونودي في المدينة بأن كل من كان له دعوى على شريف فليرفعها إلى النقيب “
![الجبرتي](http://www.toraseyat.com/wp-content/uploads/2016/07/الجبرتي.jpg)
الجبرتي
ويصف الجبرتي اهتمام “بونابرته ساري عسكر الفرنسيس” باحتفالات المولد، واشتراك الجيش الفرنسي في الاحتفال به، فيقول:”سأل صاري عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم ؟ فأعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال، فلم يقبل، وقال لابد من ذلك، وأعطى له ثلاثمائة ريال فرنساوي معاونة، وأمر بتعليق أحبال القناديل واجتمع الفرنساوية يوم المولد و لعبوا ميادينهم، وضربوا طبولهم ودبادبهم، و وأرسل الطبلخانة الكبيرة إلى بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها طوال النهار والليل بالبركة تحت داره، وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات النوبة التركية، و عدة آلات ومزامير مختلفة الأصوات مطربة، وعملوا في الليل حراقة نفوط مختلفة ، وصواريخ تصعد في الهواء”.
![القاهرة زمن المحتل الفرنسي](http://www.toraseyat.com/wp-content/uploads/2017/11/القاهرة-زمن-المحتل-الفرنسي-1024x705.jpg)
القاهرة زمن المحتل الفرنسي
واستمرت الاحتفالات بالمولد النبوي من 19 إلى 23 أغسطس 1798، أوقدت خلال ليإلىها القناديل، وأمست شوارع القاهرة وطرقاتها بمثابة أسواق ليلية .
واختص الفرنسيون ثلاثة بيوت في القاهرة بالإضاءة القوية الكثيفة الممتازة طوال الليإلى الخمس التي استغرقتها احتفالات المولد، وكانت هذه البيوت هي: دار بونابرت، ودار ديبوي الحاكم العسكري لمنطقة القاهرة، ودار السيد خليل البكري .
وكان أرباب الطرق الصوفية والاتباع والمريدون والدراويش وأصحاب الأشاير ومن إليهم يطوفون في مواكب جرارة، يحملون المشاعل والأعلام، وينشدون في أصوات هادرة عبارات دينية بين دق الطبول والتكبير، وذكر اسم الرسول صلوات الله عليه: وسارت في أثر هذه المواكب الدينية مواكب الطوائف، يتقدم كل طائفة شيخها ونقيبها وأعلامها وشاراتها.
![مذكرات نقولا الترك](http://www.toraseyat.com/wp-content/uploads/2017/11/مذكرات-نقولا-الترك.jpg)
مذكرات نقولا الترك
ويقول المؤرخ “نقولا ترك ” أن نابليون بعد تملكه القاهرة في اثنى عشر ربيع أول كان مولد النبي محمد فصنع في ذلك الأوان مولداً عظيماً على بركة الأزبكية كعادة أهل القاهرة وكانت ليلة عظيمة لأنه صف جميع العساكر الموجودة داخل القاهرة صفوفاً بطبولهم والآلات الموسيقية وأمر بحراقات عظيمة و ضرب مدافع كثيرة وكان احتفالاً عظيماً ومولداً فخيماً وحضر في الوليمة بمنزل الشيخ خليل البكري لأن هذا المولد مختص بالسادات البكرية، وذلك مع كامل الجنرالات والعلماء والأعيان وأصحاب الديوان ثم أولى الشيخ خليل البكري منصب النقابة عوضاً عن السيد عمر مكرم نقيب الأشراف.
وقد ضربت ذلك النهار مدافع كثيرة من سائر الأماكن، ومن القلعة الكبيرة وصنعت الفرنساوية في تلك الليلة مدافع كثيرة من سائر الأماكن ومن القلعة الكبيرة وصنعت الفرنساوية في تلك اللية “حراقات عظيمة” لم تكن صارت قي المدن القديمة وكان أماناً شاملاً لكل الناس وخرجت النساء والرجال من دون بأس، وصنع نابليون وليمة عظيمة لسائر الأعيان والعلماء وأهل الديوان وحكام الخطوط المصرية وقد أعجبت أهل القاهرة تلك الأحوال الباهرة والأمور الصايرة”.
![الجنرال مارمونت](http://www.toraseyat.com/wp-content/uploads/2017/11/الجنرال-مارمونت.jpg)
الجنرال مارمونت
وقد انتهج نابليون سياسة إعلامية مدروسة عقب الاحتفالات بالمولد النبوي، حيث أرسل رسالة بتاريخ 28 أغسطس 1798 إلى الجنرال مارمونت يطلب منه مقابلة الشيخ محمد المسيري كبير علماء الإسكندرية ورئيس ديوانها، ويشرح له كيف احتفل بونابرت بالمولد النبوي في القاهرة، وأمره بأن يذكر له في ثنايا الحديث أن بونابرت يجتمع ثلاث أو أربع مرات كل عشرة أيام مع كبار المشايخ ورؤساء الأشراف الذين ينحدرون من الدوحة النبوية الشريفة، وأن له مع هؤلاء وأولئك أحاديث ومناقشات، ثم قال في رسالته: «إنه لا يوجد من هو أكثر مني اعتقاداً في طهارة و قدسية الديانة المحمدية».
وفي ذات اليوم 28 أغسطس أرسل بونابرت إلى الشيخ محمد المسيري رسالة كان مما جاء فيها : «تعلمون التقدير الخاص الذي شعرت به نحوكم منذ اللحظة الأولى التي عرفتكم فيها، إني أرجو ألا يتأخر الوقت الذي أستطيع فيه جمع كل الرجال العقلاء، والمتعلمين في البلاد، وإقامة نظام موحد يقوم على مبادئ القرآن التي هي وحدها المبادئ الحقة، والتي هي وحدها قديرة على إسعاد الناس».
![Courrier de l'Egypte](http://www.toraseyat.com/wp-content/uploads/2017/11/Le_Courrier_d’Egypte01.jpg)
Courrier de l’Egypte
ومضى بونابرت في سياسته الإعلامية، مستغلاً احتفالات المولد النبوي الشريف، فأرسل في 29 أغسطس إلى الجنرال كليبر نسخة من عدد جريدة Courrier de l’Egypte الصادر في ذات اليوم، وكان هو العدد الأول من هذه الجريدة الإخبارية الفرنسية التي أصدرتها قيادة الحملة، وكانت تطبع في القاهرة، وقد تضمن هذا العدد مقالاً عن الاحتفالات التي أقيمت بالقاهرة بمناسبة المولد النبوي، وإسهام الفرنسيين في هذه الاحتفالات إسهاماً رسمياً، وقد طلب بونابرت من كليبر اتخاذ الإجراءات لترجمة هذا المقال إلى اللغة العربية، و العمل على طبعه وإذاعته في جميع أنحاء الشرق، وأن يرسل إلى بونابرت أربعمائة نسخة من الترجمة العربية.
ولقد أدرك الشعب بسليقته أن هذه الأفعال ليست صادرة عن عقيدة حقيقية وإيمان صحيح، وإنما هي ضرب من الخداع والنفاق، وأن بونابرت استهدف منها تخدير الشعب، حتى تتوطد دعائم الحكم الفرنسي في مصر، ثم يظهر بونابرت على حقيقته، وهكذا جاء بنتيجة عكسية إسراف بونابرت في التظاهر باحترام الإسلام! .
![الشيخ عبدالله الشرقاوي](http://www.toraseyat.com/wp-content/uploads/2016/07/الشيخ-عبدالله-الشرقاوي.jpg)
الشيخ عبدالله الشرقاوي
وقد رأينا كيف حلل الجبرتي، في عام 1798 ، بيان بونابرت وقد نظر الشيخ الشرقاوي إلى الأمور بالشكل نفسه في السرد القصير الذي قدمه للاحتلال الفرنسي حيث قال إنهم فرقة من الفلاسفة إباحية طبائعية .. يتبعون عيسى عليه السلام ظاهراً “