الرئيسية » حكاوي زمان » “مصر في حرب القرم” سياسة تبادل المصالح بين الوالي و السلطان
من معارك حرب القرم
من معارك حرب القرم

“مصر في حرب القرم” سياسة تبادل المصالح بين الوالي و السلطان

كتب ـ وسيم عفيفي
بشهادة من عاصروا حرب القرم التي اندلعت سنة 1853 م فقد كان لمصر الدور الأبرز في أخطر حروب العثمانيين ضد الروس حيث أن أفراد التجريدة ضربوا مثلًا رائعًا في الشجاعة والاستبسال والانضباط .
أما من الناحية السياسية كما يرى مؤرخي العسكرية المصرية فكان الأمر يتوزع بين رغبة النظام الحاكم لمصر في الاستفادة من تلك الحرب، ورغبة الباب العالي في استغلال الإمكانيات الحربية المصرية وتوظيفها لصالحه.
في الوقت الذي اندلعت فيه حرب القرم كان عباس يجلس على عرش مصر باعتباره مزيجًا من الوالي المُعَيَن من قِبَل السلطان العثماني، والحاكم شبه المستقل الذي ورث حكم البلاد عن مؤسس الأسرة العلوية محمد علي باشا.

محمد علي

محمد علي

ووفقًا لفرمان يونيو 1841 فإن والي مصر لم يكن له أن يزيد عدد أفراد الجيش عن 18000 فرد في وقت السلم، يمكن زيادتها في وقت الحرب، وألا يقوم ببناء أية سفن حربية إلا بأمر الباب العالي، فضلًا عن التزامه بأن يحمل الجنود المصريون نفس الشارات والرايات العثمانية، وألا تختلف أزياؤهم أو علاماتهم عن تلك التي يحملها جنود جيش السلطان، كما نُص في الفرمان على أن على والي مصر إرسال 400 جندي مصري سنويًا إلى الأستانة، ليكونوا تحت أمر السلطان، وكان التزام الباب العالي بإقرار أسرة محمد علي في حكم مصر مرتبطًا بالتزام بنود هذا الفرمان.
إلا أن عباس كان قد تجاهل البند الخاص بعدد قوات الجيش والتي ظلت في زيادة حتى تجاوز تعدادها في عهده 94000 مقاتل ، وكان سبب ذلك هو خشيته من غدر الحكومة العثمانية به، فضلًا عن إدراكه أن وجود هذا العدد الضخم من القوات تحت يده هو الوسيلة التي تقيه هذا الغدر.
ولأن الفرمان سالف الذكر كان ينص على التزام مصر بكافة المعاهدات الدولية التي تبرمها الدولة العثمانية، فإن عباس قد وجد نفسه ملتزمًا بالمشاركة في الحرب ضد روسيا.

مناطق معارك القوات المصرية في حرب القرم

مناطق معارك القوات المصرية في حرب القرم

كانت في مشاركة مصر في تلك الحرب عدة فوائد لعباس منها كما يرى مجموعة مؤرخي 73 أن الحرب كانت ذريعة ممتازة لزيادة تسليح وتعداد الجيش المصري، وإكمال بعض الإصلاحات الحربية التي بدأها إبراهيم باشا
وثانيًا فإن مده يد العون للباب العالي كان بمثابة رسالة لهذا الأخير أن عليه الحفاظ على هذا الحليف القوي على عرش مصر في وقت كان أقارب عباس فيه يحيكون المؤامرات ضده في الأستانة
وثالثًا فإن عباس كان يحاول أن يستبدل التقارب المصري الفرنسي بآخر مصري إنجليزي، ودخول الحرب في جانب تجتمع فيه كلا من إنجلترا والدولة العثمانية هي فرصة خيالية له ليتقرب لكل منهما.
وبالفعل، فإن في يوم 28 يوليو 1853 قام الأسطول المصري بنقل قوات بلغ تعدادها 20000 مقاتل بقيادة سليم باشا فتحي – وهو أحد أبطال حروب إبراهيم باشا في الشام والأناضول – إلى الأستانة ومنها لمسرح العمليات الحربية في الدانوب.

القوات المصرية و الدولة العثمانية

القوات المصرية و الدولة العثمانية

كانت القوة المصرية تنقسم إلى سبع آليات (كتائب) من المشاة، وآلية من الخيالة، و12 بطارية مدفعية، وكانت القوة مزودة ب40000 بندقية و672 مدفعا.
أما القوة البحرية فكانت عبارة عن 12 قطعة بحرية منها ثلاث قطع كل منها مزودة بمئة مدفع، وأربعة مزودة بستين مدفعًا، وثلاثة مزودة بـ24 مدفعًا وبأخرتين بكل منهما اثنا عشر مدفعًا.
فور وصول الجيش إلى ميدان المعركة قام بالمرابطة في “ساستريا” التي تعرضت لهجوم روسي عنيف انكسر على صخرة استبسال القوات المصرية في الدفاع عن المدينة، وأثبت أنه قد أجاد تعلُم الطرق الحديثة في القتال، حتى إن الجنرال أسمونت – أحد قادة الجيش المصري – قد شهد للمصريين بالتفوق على الفرق التركية.
كما تحرك الأسطول إلى البحر الأسود حيث اشتبك مع نظيره الروسي الذي أغرق بعض القطع المصرية فقامت باقي القطع بنقل القوات المتبقية إلى ثغور البحر الأسود.
بعد انتقال الحكم من عباس إلى سعيد بسبب وفاة الأول استمر الوالي الجديد في اهتمامه بأمر تلك الحرب المشتعلة في القرم.

قادة القوات المصرية المشاركة في الحرب العثمانية الروسية

قادة القوات المصرية المشاركة في الحرب العثمانية الروسية

وسارع بإرسال الإمدادات إلى القوات المشتبكة هناك والتي كانت تحقق الانتصارات المبهرة رغم معاناة الجنود المصريين من انخفاض درجات الحرارة في شتاء 1854-1855 في الأجواء الجليدية التي لم تعتدها الأجساد المصرية.
كانت القوات المتحالفة قد احتلت مدينة “إيباتوريا” من ثغور القرم لاستخدامها لضرب المواقع الروسية في شبه الجزيرة، وتولى المصريون الدفاع عن تلك المدينة ببسالة رغم تعرضهم لخسائر بشرية فادحة نتيجة العمليات الحربية والأمراض.
وفي يوم 18 فبراير 1855 استشهد سليم باشا فتحي قائد القوات المصرية بالقرم ليخلفه أحمد باشا منكلي، إلا أن هذا الأخير قد أصيب بمرض خطير اضطره لتسليم القيادة لإسماعيل باشا أبوجبل.
وعلى الجانب البحري فُقد الجيش المصري حسن باشا الإسكندراني قائد الأسطول وسنان بك أحد قادته ونحو 1920 مقاتلًا غرقوا جميعًا في البوسفور بسبب اصطدام سفينتين مصريتين نتيجة عاصفة عاتية هبت على السفن المصرية خلال تحركها من الأستانة بعد إجراء بعض عمليات الإصلاح والصيانة

عبدالرحمن الرافعي

عبدالرحمن الرافعي

استفاد الطرفين كما أرخ الرافعي لتلك الحرب حتى سعيد باشا الذي خلف عباس باشا فقد استفاد حيث أنه عام 1856 بعد انتهاء الحرب أمر بإصلاح السفن المصرية وإنشاء سفن جديدة استمرارًا لسياسة سلفه في تكوين قوة حربية مصرية قادرة على توطيد حكم أسرة محمد علي في مصر.
هكذا كانت حرب القرم بمثابة مصباح علاء الدين للقوى المتصارعة فالسلطان العثماني كسب بضعة عقود من العمر في فترة احتضاره، وروسيا التي كانت تطمع في أن تطلق على هذا المريض رصاصة الرحمة لتسارع إلى نيل نصيب الأسد من تركته استطاعت أن تخلق لنفسها دورًا قويًا في البلقان والدانوب من خلال الشعوب الساعية للانفصال عن العثمانيين كالصرب والبوسنة والجبل الأسود، أما إنجلترا وفرنسا فقد حققتا نصرًا مزدوجًا فمن ناحية صار تدخلهما في شأن الولايات العثمانية -بالذات مصر- أكبر وأعمق، ومن ناحية أخرى فإنهما استطاعتا تأجيل إعلان وفاة العملاق العثماني إلى حين ترتيب كلا منهما أوراقها وخططها لتقسيم التركة بهدوء فضلًا عن إنهاكهما روسيا بحرب لم تخرج منها تلك الأخيرة إلا وقد وهنت عظامها، وأسرة محمد علي استطاعت أن تحصل لنفسها على مزيد من الاستقلال ولو بصورة شكلية ومؤقتة، والنمسا أثبتت قدرتها على مزاحمة الدول الأوروبية الكبرى إن لم يكن حربيًا فدبلوماسيًا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*