الرئيسية » حكاوي زمان » “الإنكشارية” تاريخ من الوفاق و الشقاق مع الدولة العثمانية
جيش الإنكشارية
جيش الإنكشارية

“الإنكشارية” تاريخ من الوفاق و الشقاق مع الدولة العثمانية

كتب ـ وسيم عفيفي
كانت مرحلة السلطان أورخان غازي مؤسس الإنكشارية مرحلة في غاية الأهمية بعصر الدولة العثمانية .
فهو أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل مُؤَسِّس الجيش العثماني، ومُؤَسِّس جيش الانكشارية، ومُنهي نفوذ البيزنطيين في بلاد آسيا الصغرى، وفي عهده بدأت الفتوحات الإسلامية في الشرق الأوربي.
نشأ أورخان في كنف أبيه السلطان عثمان الغازي مُؤَسِّس الدولة العثمانية؛ التي إليه تُنسب، وحرص أبوه على إعداده لتولِّي المسئولية ومهامِّ الحكام؛ فعهد إليه بقيادة الجيوش التي كان يُرسلها إلى حدود الدولة البيزنطية، وكان أورخان عسكريًّا من الطراز الأول.

الإنكشارية

الإنكشارية

لكن أبرز ما ابتكره أورخان غازي هو نظام الإنكشارية ، فوفق بوابة المعلومات الدولية أدرك أورخان أدرك، من خِلال عمليَّاته العسكريَّة السَّابقة، حاجتهُ إلى جيشٍ من المُشاة يستطيع بِواسطته أن يفتح القِلاع ويقتحم الأسوار المنيعة، وقد فشلت جُهُوده في تحويل الفُرسان التُرك إلى جُنودٍ مُشاة حتَّى مع تنظيمات أخيه علاء الدين، وكان قبل تلك التنظيمات يُعاني من تأخير الفُرسان الإقطاعيين في الوُصول إلى ساحة القتال في الوقت المُحدَّد، وعدم تحمُّلهم القيام بِعمليَّات حصارٍ طويلة، بِالإضافة إلى أنَّهُ لم يكن من المُمكن الرُكون إليهم في عمليَّاتٍ عسكريَّةٍ بعيدٍ عن مناطق إقطاعاتهم من دون التعرُّض لِبعض المشاق.
كما استدرك علاءُ الدين أمرًا خطرًا آخر ظهر في جيش الإمارة العتيدة، وهو تحزُّب كُل فريقٍ من الجُند إلى القبيلة التابع إليها، فخشي انفصام عرى الوحدة العُثمانيَّة التي كان كُل سعيه وسعي شقيقه السُلطان في إيجادها.

أورخان غازي

أورخان غازي

كان من الطبيعي أن يسعى الرجُلان لِإنشاء جيشٍ من المُشاة دائمٍ ومُحترف، وهذا ما سمحت الظُروف بِتحقيقه في النصف الأوَّل من القرن الرَّابع عشر الميلاديّ
وذلك باستخدام عُنصُر غير مُسلم وغير تُركي، وهو نظامٌ عسكريٌّ جديدٌ لم يكن مُتبعًا في الدُول التُركيَّة الإسلاميَّة السَّابقة على العُثمانيين.
كان صاحبُ هذه الفكرة هو قره خليل باشا الجندرلي، وهو أحد مُستشاري أورخان، فاقترح عليه أن تأخذ الدولة خُمس أسرى الحرب من فتيان الروم مُقابل الضريبة المُستحقة عليهم إستنادًا إلى قانون الخُمس الذي صدر في عهد أورخان، وأن يُؤخذ أيضًا الأطفال الأيتام والمُشردين من الروم والأوروپيين ويُفصلون عن كُل ما يُذكرهم بِقومهم وأصلهم وتتم تربيتهم تربية إسلاميَّة تشمل الفكر والجسم لِترسيخ مبادئ الإسلام في قُلوبهم وأنفُسهم بحيثُ لا يعرفون أبًا إلَّا السُلطان ولا حرفةً إلَّا الجهاد والحرب، وأن يُخضعوا بعد ذلك لِتدريبٍ عنيفٍ خاص يهدف إلى تقوية أبدانهم وتعويدهم خُشونة العيش، حتَّى إذا بلغوا السن اللائق لِلخدمة العسكريَّة أُدخلوا ضمن فرق الجيش.
 وممَّا حبَّب هذه الفكرة إلى أورخان وزيَّنها إليه أنَّ هؤلاء الغلمان كان لا يُخشى على تحزُّبهم إلَّا لِلدولة والسُلطان والإسلام نظرًا لِعدم وُجود أقارب لهم يُخشى على ميلهم إليهم، كما استحسن أخوه علاء الدين هذا النظام.
ويُذكر أنَّ أخذ الفتيان أو ما اصطُلح على تسميته بـ«ضريبة الغلمان»، كان مقصورًا على رعايا الدولة النصارى الذين يتبعون الكنيسة الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة، رُبما بِسبب أنهم يُشكلون الغالبيَّة العُظمى من رعايا الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وبالتالي المناطق التي فتحها المُسلمون.

الإنكشارية

الإنكشارية

بدايات تدخل الإنكشارية في السياسة عندما تم استخدامهم في النزاع بين أبناء بايزيد، الذين عرفوا قيمتهم السياسية، وبعد أن استتبت الأمور لمحمد بن بايزيد استخدم الإنكشاريين في إخضاع الممالك المتمردة، ولكن هذا النزاع بين أبناء بايزيد وتمرد الممالك أظهر تحريك الإنكشاريين على المسرح التاريخي للدولة العثمانية بصفة الموازنين الاجتماعيين والمدافعين عن المصالح السياسية للأسرة الحاكمة.
عمل الإنكشاريون على تثبيت حكم مراد الثاني ضد من حاولوا سلبه العرش بعد وفاة والده، وحاول مراد الثاني، بغية تأكيد حقوقه في السلطة العليا، الهجوم على القسطنطينية للحصول على نصر حربي كبير، فوعد مقاتليه بغنائم كثيرة، ولكنه لم ينجح للتحصينات القوية.
وبعد فتح القسطنطينية شارك الإنكشاريون مع السلطان في كل حروبه في أوروبا، وكذلك في آسيا الصغرى، وأظهروا فيها جلدا كبيرا، فنالوا امتيازات كثيرة، وبعد وفاة محمد الفاتح برز دورهم السياسي في اختيار خلفه، ووزيره الأعظم وشاركوا في النزاع على السلطة داخل الأسرة الحاكمة محققين مصالحهم المادية.

بايزيد

بايزيد

استخدم بايزيد الإنكشاريين في تثبيت دعائم حكمه، والقضاء على الفتن، ولكنهم تدخلوا وبقوة في النزاع على الحكم، وعملوا على دعم السلطان سليم في الوصول للحكم، فنالوا بعض الامتيازات مثل السماح لقدمائهم بالزواج والمكوث خارج الثكنات.
بدأ السلطان أولى حملاته على الشاه الصفوي، الذي تهرب من لقائه، فطال الطريق على الجيش، فاعترضوا على الحملة، ظانين أن باستطاعتهم التأثير في السلطان الذي ساهموا في تنصيبه، وقد يكون التأثير الشيعي في صفوفهم هو سبب الاعتراض، ولكن السلطان لم يستمع لهم ومضى في طريقه.
بعد عودة السلطان من الحملة على إيران وعدم مكوثه في شتاء ذلك العام في أذربيجان بسبب الضغوط من الإنكشاريين كان لابد من عقابهم على اعتراضاتهم، فجمع قادتهم واعدم المحرضين، وعين قائدا لهم من غيرهم، فكان السلطان سليم أول من قام بإصلاح الفيلق الإنكشاري بغية تعزيز رقابة الدولة على الإنكشاريين بعد أن أظهروا خطر الاعتماد عليهم.

كتاب الإنكشاريون في الإمبراطورية العثمانية

كتاب الإنكشاريون في الإمبراطورية العثمانية

ووفق ما جاء في كتاب الإنكشاريون في الإمبراطورية العثمانية ، لـ إيرينا بيتروسيان ، فبعد تولي السلطان محمود الثاني سلطنة الدولة العثمانية سنة 1808 أيد تطوير الجيش العثماني وضرورة تحديثه بجميع فرقه وأسلحته بما فيها الفيالق العسكرية، فحاول بالسياسة واللين إقناع الانكشارية بضرورة التطوير وإدخال النظم الحديثة في فرقهم، حتى تساير باقي فرق الجيش العثماني، لكنهم رفضوا عرضه.
فحاول أن يلزم الانكشارية بالنظام والانضباط العسكري، وملازمة ثكناتهم في أوقات السلم، وضرورة المواظبة على حضور التدريبات العسكرية، وتسليحهم بالأسلحة الحديثة، وعهد إلى مصطفى باشا البيرقدار بتنفيذ هذه الأوامر. غير أن هذه المحاولة لم تنجح وقاوموا رغبة السلطان وتحدوا أوامره، وقاموا بحركة تمرد واسعة وثورة جامحة كان من نتيجتها أن فقد حياته.

لم تنجح محاولة السلطان الأولى في فرض النظام الجديد على الانكشارية، وصبر على عنادهم، وإن كانت فكرة الإصلاح لم تزل تراوده، وازداد اقتناعًا بها بعد أن رأى انتصارات محمد علي المتتابعة، وما أحدثته النظم الجديدة والتسليح الحديث والتدريب المنظم في جيشه، وطال صبر السلطان ثمانية عشر عامًا حتى عزم مرة أخرى على ضرورة إصلاح نظام الانكشارية؛ فعقد اجتماعًا في (19 من شوال 1241 هـ=27 أيار/مايو 1826) في دار شيخ الإسلام، حضره قادة أسلحة الجيش بما فيهم كبار ضباط فيالق الانكشارية، ورجال الهيئة الدينية وكبار الموظفين، ونوقش في هذا الاجتماع ضرورة الأخذ بالنظم العسكرية الحديثة في الفيالق الانكشارية، ووافق المجتمعون على ذلك، وتلي مشروع بإعادة تنظيم القوات الانكشارية، وأصدر شيخ الإسلام فتوى بوجوب تنفيذ التعديلات الجديدة، ومعاقبة كل شخص تسول له نفسه الاعتراض عليها.

الإنكشاريون

الإنكشاريون

غير أن الانكشارية لم يلتزموا بما وافق عليه الحاضرون في هذا الاجتماع؛ فأعلنوا تمردهم وانطلقوا في شوارع إسطنبول يشعلون النار في مبانيها، ويهاجمون المنازل ويحطمون المحلات التجارية، وحين سمع السلطان بخبر هذا التمرد عزم على وأده بأي ثمن والقضاء على فيالق الانكشارية، فاستدعى السلطان عدة فرق عسكرية من بينها سلاح المدفعية الذي كان قد أعيد تنظيمه وتدريبه، ودعا السلطان الشعب إلى قتال الانكشارية.
وفي صباح يوم 9 من ذي القعدة 1241 هـ=15 حزيران/يونيو 1826 خرجت قوات السلطان إلى ميدان الخيل بإسطنبول وكانت تطل عليه ثكنات الانكشارية، وتحتشد فيه الفيالق الانكشارية المتمردة، ولم يمض وقت طويل حتى أحاط رجال المدفعية الميدان، وسلطوا مدافعهم على الانكشارية من كل الجهات، فحصدتهم، بعد أن عجزوا عن المقاومة، وسقط منهم ستة آلاف جندي انكشاري.

 

محمود الثاني

محمود الثاني

وفي اليوم الثاني من هذه المعركة التي سميت بـ”الواقعة الخيرية” أصدر السلطان محمود الثاني قرارًا بإلغاء الفيالق الانكشارية إلغاءً تامًا، شمل تنظيماتهم العسكرية وأسماء فيالقهم وشاراتهم، وانتهى بذلك تاريخ هذه الفرقة التي كانت في بدء أمرها شوكة في حلوق أعداء الدولة العثمانية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*