كتب – وسيم عفيفي
يظن كثيرون أن أحلام الكيان الصهيوني في إقامة وطن دائم لليهود بدأت تظهر في الأفق مع إعلان تيودور هرتزل قيام المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل بسويسرا يوم 29 أغسطس 1897 م .
غير أن هذا الظن وإن جانبه الصواب لكنه يفتقد للأساس التاريخي في وجوده ، ففكرة الوطن الدائم لليهود لم يكن هرتزل هو مخترعها بل كان المحرك الرئيسي في تطويرها .
أما اختراع فكرة إقامة الوطن الدائم فقد كانت قبل تيودور هرتزل بـ 59 عاماً عن طريق السمسار موشيه موسى مونتيفيوري ، الأب الروحي والجندي المجهول في الأيدولوجية الصهيونية .
ولد موسى مونتيفيوري في بريطانيا عام 1784 م لأسرة إنجليزية ذات أصول إيطالية يهودية من السفاردين الذين تعود أصولهم الأولى ليهود أيبيريا .
بدأ عمله في بريطانيا كسمسار ببورصة لندن ، وأكسبه هذا العمل ثراءاً سريعاً خاصة بعد المصاهرة التي تمت بينه وبين عائلة روتشليد الرأسمالية .
امتلك موسى مونتيفيوري نفوذاً مالياً جعله أول المؤسسين للبنوك الصناعية بين الإنجليز والأمريكان في مجال تجارة الماس ، بمعاونة رجل الصناعة اليهودي أوبنهايمر .
ولم يكن موسى مونتيفيوري يفتقد للنفوذ السياسي ، فقد كان رئيس الجالية اليهودية في بريطانيا كما كان عمدة لندن وأول يهودي يحصل على لقب “سير” .
أدى الثراء الواسع لـ ” موسى مونتيفيوري” إلى اعتزال العمل العام سنة 1824 م وتفرغ للقضايا اليهودية العالمية في شرق أوروبا و دول الإمبراطورية العثمانية ، ليبدأ رحلة عابرة إلى فلسطين كررها 7 مرات دون تحقيق جدوى .
وبعد رحلات دامت 10 سنوات سافر إلى مصر عام 1838 م ليعرض على الباشا محمد علي خطة لتمكن اليهود من فلسطين وتوطينهم بها مع توفير وضع متميز لهم .
تفاصيل هذا اللقاء التاريخي كشف عنه إيلي ليفي أبو عسل ، في كتابه يقظة العالم اليهودي نقلاً عن جريدة صفد الفلسطينة عدد 24 مايو 1839 م ـ بعد عام من لقاء الباشا مع مونتيفوري ووقتها كانت فلسطين تحت الحكم المصري العثماني ـ
فقد استقبله محمد علي باشا بالترحاب ، وذلك لأن ربوع الشام كانت تحت الإدارة المصرية بعد حروب الباشا و الدولة العثمانية .
جرى النقاش والاتفاق حول تأجير مصر 200 قرية فلسطينية لليهود لمدة 50 عاماً معفاة من الضرائب وواقعة تحت التسهيلات التجارية العالمية دون قيود ، في مقابل 20 % من قيمة الأرباح اليهودية تذهب إلى محمد علي باشا .
كان محمد علي موافقاً على التأجير لرجال الأعمال اليهود حيث أن المكسب المالي المهول سيعوضه عن الخسائر العسكرية التي بدأ يتكبدها في حروب الشام وصراعه مع أوروبا ، وستكفل المكاسب له العمل على تسليح جيشه أمام هذه الحروب .
غير أن هناك عقبة كانت أمام الباشا وهي أن الموافقة على التأجير ليست من صلاحيات الباشا وإنما هي من صلاحيات الخليفة حتى لو لم يكن له نفوذ سياسي على الأرض ، فبدأ محمد علي يرخص لهم أراضي سوريا ، ويوافق على إنشاء بنوك يهودية في القدس ، متعهداً له في ذلك بترتيب لقاء مع رؤساء الجاليات اليهودية في الشام
وهذا الأمر أكده الدكتور عبدالوهاب المسيري أحد أبرز المعادين للحركة الصهيونية وذلك في كتابه موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ط1 القاهرة: دار الشروق، 1999م ، الجزء السادس ص 177
ورغم العقبات الاجتماعية التي واجهها موسى مونتيفيوري فقد تمكن من تجاوزها في غضون أشهرٍ قليلة وبدأ فعلياً في تأسيس خطوط التجارة اليهودية داخل الشام وفلسطين كما شيد المستوطنات الزراعية في الجليل ويافا، وأسس أول حي يهودي خارج أسوار مدينة القدس، كما وضع نواة المشاريع الصناعية، لكن الكارثة بالنسبة لموسى مونتيفيوري وقعت بعد سنتين من لقاءه مع الباشا .
حيث ضُرِب محمد علي في مقتل سياسي حاد عام 1840 م بـ معاهدة لندن التي أسفرت عن تقليم أظافر الطموح لدى الباشا ، لينتهي حكمه في الشام بشكل نهائي ويعود للسلطان في مقابل أن يكون حكم مصر لمحمد علي باشا مدى الحياة ويكن في ذريته للأبد .
قرر موسى مونتيفيوري العمل بمبدأ “دخول البيوت من أبوابها” فتمكن بمعاونة الإنجليز من إقناع السلطان العثماني عبدالمجيد الأول بمبدأ منح الامتيازات لليهود لكن بشكل واسع فبدلاً من منح الامتيازات لهم داخل القدس والشام ، تمكن من إقناع السلطان العثماني بمنح الامتيازات لليهود في كل أرجاء الإمبراطورية العثمانية ، وهو ما يعني تشكيل نبتة العنصر الأجنبي بشكل استيطاني .
وافق السلطان العثماني عبدالمجيد الأول على الفور ، خاصةً بعد جلسته مع هنري جون تيمبل المعروف بـ “اللورد بالمرستون” رئيس وزراء بريطانيا .
وكان السلطان العثماني هو الآخر له حساباته التي تجعله يوافق ، حيث أن موسى مونتيفيوري بالنسبة له هو قاطع الطريق المثالي أمام محمد علي وخلفاءه من أسرته إن فكروا في الاستيلاء مرة أخرى على الشام .
وبهذا تمكن موسى مونتيفيوري من وضع قواعد فعلية للحلم اليهودي وسعى في ذلك إلى أن رحل عن عمر 100 عام سنة 1885 م ، وبعد رحيله بـ 59 سنة تشكل الكيان الصهيوني رسمياً .
وتتويجاً لجهود موسى مونتيفيوري فقد أعيد دفن جثمان مونتفيوري وزوجته في إسرائيل عام 1973 م