وسيم عفيفي
مسجد النوري الذي انتهى تاريخه البالغ 845 سنة ، بنهاية يوم 25 رمضان من العام الجاري 1438 هجرية ، الموافق 21 يونيو من العام 2016 ميلادية .
قصة تاريخية عتيقة تعود إلى العصر الزنكي مع نور الدين محمود أيقونة النضال ضد الأيوبيين حينما تولى الموصل ودخلها دون قتال ، ورأى أنه لا يوجد مسجد جامع كبير يضم المصلين فقرر بناء المسجد
تبدأ القصة عندما كانت الموصل خراباً رغم اتساع مساحتها ، فأشار الشيخ معين الدين عمر الملا على نور الدين محمود بشراء منطقة الخربة وبناء جامع عليها .
وتحولت منطقة الجامع من جزء فيه أساطير تنفر الناس منه ، إلا أيقونة معمارية .
ووكل نور الدين شيخه معين الدولة عمر بن محمد الملاء بأمر بناء الجامع.
كانت المشاكل تلاحق معين الدين ، خاصةً بعد تشكيك الناس في عدم أهليته لهذه المهمة ، فرد عليهم قائلاً “إذا وليت العمل بعض أصحابي من الأجناد أو الكتاب، أعلم أنه يظلم في بعض الأوقات، ولا يُبنى الجامع بظلم رجل مسلم، وإذا وليت هذا الشيخ، غلب على ظني أنه لا يظلم، فإذا ظلم كان الإثم عليه لا علي”
ووفق وفيات الأعيان فقد باشر الشيخ عمر ببناء الجامع سنة 566 هـ فابتاع الخربة من أصحابها، بعد أن اشتراها بأوفر الأثمان، وكان يملأ تنانير الجص بنفسه، وبقي يشتغل في عمارة الجامع ثلاث سنوات، إلى أن انتهى منه سنة 568 هـ.
بعد أن فرغ من عمارة الجامع، رأى من المستحسن أن يبني به مدرسة، وعرفت فيما بعد بمدرسة الجامع النوري. يقول ابن كثير في البداية والنهاية أن أول مدرس في المدرسة كان أبي بكر البرقاني تلميذ محمد بن يحيى تلميذ الغزالي
وكان نور الدين قد رجع إلى الموصل سنة 568 هـ وصلى في جامعه، بعد أن فرشه بالبسط والحصران، وعين له مؤذنين وخدمًا وقومة ورتب له ما يلزمه.
تكلفة بناء الجامع غير معروفة ولكن تتراوح التقديرات بين وستين ألف دينار وثلثمائة ألف دينار. ويذكر أن في زيارة نور الدين الثانية (568 هـ) للموصل كان جالسا على دجلة وجاءه إليه شيخه معين الدولة وقدم إليه دفاتر الخرج وقال له: «يا مولانا، أشتهي أن تنظر فيها» فقال له نور الدين: «ياشيخ، عملنا هذا لله، فدع الحساب ليوم الحساب» وأخذ الدفاتر ورماها في دجلة.
وفق تاريخ الجغرافيا للعراق فإن الجامع يشتهر بمنارته المائلة والتي تسمى غالبًا منارة الحدباء وسابقًا المنارة الطويلة وتعتبر أعلى منارة في العراق.
وكلمة الحدباء هي أحد ألقاب الموصل وقيل أن هذا اللقب ياتى من اسم المنارة.
لكن هناك أقاويل كثيرة حول انحاءها ، وأرجحها أن سبب انحنائه نحو الشرق هو الريح السائدة الغربية في الموصل، حيث تؤثر هذه الرياح على الأجر والجص المبنية منه هذه المنارة فأدت إلى ميلانها إلى جهة الشرق.
أما عن مؤسس المسجد فهو نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي ، وقد ولد نور الدين عام 511 للهجرة.
ووفق تاريخ نسيم الشام فقد كان عماد الدين، والد نور الدين ذو أصول كردية، وهو آخر من ولي إمارة الموصل، كأمير من أمراء السلاجقة سنة 521.
وكان عند عماد الدين من الطموح ما أهله لأن يكون منشئ دولة عرفت باسمه.
وإن كان عماد الدين لم يمهله الأجل حتى يمد أطرافها إلى الحدود التي كان يقدرها لها، إلا أن ابنه نور الدين، حمل على عاتقه استكمال ما انتهى إليه أبوه، حتى أصبحت الدولة الزنكية –أو الدولة الأتابكية- تشمل الموصل، والجزيرة العراقية، والشام، ومصر، واليمن، بعد أن كانت تشمل الموصل، والجزيرة، وبعض بلاد الشام فقط، في عهد عماد الدين.
توفى عماد الدين الدين زنكي والد نور الدين عام 541 هـ، بعد أن ترك وراءه سيرة جليلة جديرة بالدراسة.
فهو أول من وقف في وجه الصليبيين منذ أن وطأوا أرض الشام عام 490 هـ وقوفاً جاداً حاسماً، حتى استطاع أن يسترد كثيراً من البلاد التي سلبوها من أصحابها المسلمين، واستطاع أيضاً أن يسترد سنة 539 مدينة الرها التي كانت إحدى إمارات الصليبيين الأربع الكبرى، وبسقوط الرها زلزلت أقدام الصليبيين بالشام، واعتبروا خروجها من أيديهم بداية نهايتهم فيها.
والعمل الجليل الثاني الذي قام به عماد الدين عندما ولى الموصل، هو تكوينه دولته من إمارات الجزيرة المشتتة، وكان عماد الدين يحرص على ضم دمشق إلى دولته، وجعلها عاصمة لها ومركز المقاومة الإسلامية للعدو الدخيل، وليستكمل الوحدة بين الموصل والجزيرة والشام، ولكن الموت عاجله في سنة 541 قبل أن يحقق هذه الوحدة.
ما كان الصليبيون يعلمون بوفاة عدوهم الأكبر عماد الدين، حتى شملهم الفرح وداخلهم الاطمئنان، استهانوا بنور الدين، وأملوا في استرجاع ما استخلصه أبوه منهم من البلاد، فأشبوا قرنهم واستبسلوا، فأغار صاحب أنطاكية الصليبي على حلب وحماة، فردّهم عنها جيش نور الدين. واستولى جوسلين على الرها في غفلة من الأخوين نور الدين وسيف الدين، ولكن سرعان ما خرج إليه نور الدين بجيشه، فأطلق جوسلين ساقيه للريح هارباً، فدخل نور الدين الرها واستردها، وحطم آخر أمل للصليبيين في استعادتها، وعندئذ فطن الصليبيون إلى أن الخطر عليهم لا يزال قائماً، وإذا كان عماد الدين قد مات، فإنه ترك من بعده، من لا يقل عنه قوة وخطراً.
كان حادث الرها أول لقاء بين نور الدين وبين الصليبيين وجهاً لوجه.
ثم تعدد اللقاء بعد ذلك وكثر، فدارت المعارك بينه وبينهم مدة الثلاثين عاماً التي عاشها، كان النصر في مجموعها حليف نور الدين.
وضرب نور الدين الصليبيين ضربتين عنيفتين لا يقل أثرهما –إن لم يزد- عن أثر سقوط الرها، وذلك باستيلائه على دمشق ومصر، اللتين كانتا مطمح أنظار الصليبيين، وكان من أكبر أهدافهم الاستيلاء عليهما، فكثيراً ما حاصروا دمشق وشنوا الغارات العديدة عليها بقصد الاستيلاء عليها، ولكنهم فشلوا لقوة صاحب دمشق أحياناً، ولإرضائهم بالمال أحياناً أخرى، حتى جاء الوقت الذي بلغ فيه صاحب دمشق حداً كبيراً من الضعف، فخشي نور الدين عليها من السقوط في أيديهم، فاستولى عليها سنة 549. وكانت نتيجة هذا الاستيلاء أن أصبح الصليبيون محاصرين على الساحل، وأصبح الطريق إلى مصر مفتوحاً أمام المسلمين، واستطاع نور الدين فعلاً أن يستولي على مصر سنة 564 هـ.
وما يقال عن دمشق، يقال عن مصر أيضاً، فقد كان الصليبيون يتحرقون إلى الإستيلاء عليها تحرّقهم إلى الإستيلاء على دمشق ذلك أن استيلاءهم على مصر ذات المركز الاستراتيجي الممتاز يسهل عليهم الاتصال بالغرب الذي أخذ على عاتقه إمدادهم بالمقاتلة والمؤن والسلاح، فطريق مصر ييسر لهم هذا الاتصال وييسر لهم وصول ما يحتاجون إليه، فضلاً عن ما تمتاز به مصر من الثروة والرخاء وكثرة الأموال. بل لعلهم عن طريق مصر، يستطيعون استرداد ما فقدوه من بلاد الشام، فالطريق من مصر إلى الشام براً يصبح سهلاً وميسوراً لهم.
والعمل البارز الثاني لنور الدين، هو جمع الموصل، والجزيرة العراقية، والشام ومصر واليمن في دولة واحدة، تحمل اسم الدولة الزنكية- أو الدولة الأتابكية.
أرسل نور الدين قائده أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين بن أيوب بجيش إلى مصر فحررها من الصليبيين وطردهم منها سنة 564، وظل شيركوه في مصر يعمل وزيراً للخليفة الفاطمي في الظاهر وباسم نور الدين في الباطن حتى إذا مات شيركوه خلفه في الوزارة ابنُ أخيه صلاح الدين، فأسقط الخطبة للفاطميين، وخطب للخليفة العباسي ولنور الدين، وبهذه الخطبة كان إعلان دخول مصر في الوحدة الشامية الموصلية، وصيرورتها جزءاً هاماً من الدولة الزنكية الموحدة ؛ ثم انتهى بعد ذلك عصر الدولة الفاطمية
ثم لم يلبث صلاح الدين أن انتهز فرصة اضطراب الأمور في اليمن فاستولى عليها باسم نور الدين وضمها إلى الدولة الفتية، فأصبح اسم نور الدين يردد على منابر الموصل، ودمشق، ومصر، واليمن.
وقد توفي نور الدين سنة 569هـ ودفن في دمشق، في الحي القديم (في آخر منطقة الحريقة)