الرئيسية » رموز وشخصيات » “النورسي” أيقونة الأيدولوجية الثورية الدينية في القرن العشرين
بديع الزمان
بديع الزمان

“النورسي” أيقونة الأيدولوجية الثورية الدينية في القرن العشرين

كتب: وسيم عفيفي
وفق وثائقي عن سعيد النورسي فهو فارس أراد أن يضع رؤية للكون والحياة
مفكر مسلم أريد له أن تتطابق حياته مع تغيرات شديدة ألمت بتركيا والأمة الإسلامية كلها، مواجهة ما زالت لم تحسم بين الأمة والدولة القومية، معركة حول دور الإسلام في الفكر، في المجتمع، في الحكم، في وجوه الحياة جميعا، رجل نحيل قد تزدريه العين لكن فيه كره ضئيل صلابة خارقة وعناد عجيب أتاح له أن يسدي يدا بيضاء أسهمت في حفظ مكانة الإسلام في تركيا الحديثة، عاش مطارد، مشرد، منفي، مسجون، عاش ممنوعا لكنه بلغ ما يريد، يذكر الزمان سعيد النورسي مولود في قرية نائية في منطقة متخلفة وعرة المسالك وسط جبال الأكراد في شرق الأناضول، القرية اسمها نورس ومنها أخذ لقبه ومن حروف اسمها نور أخذت دعوته وكتاباته اسمها.. دعوة النور ورسائل النور
ولد عام 1877 كانت تغيرات خط همايون قد صدرت التغيير أو الأصوب التغريب مس كل شيء حتى معايير الكيل والوزن والطول صارت غربية، كان ثمة هوس بالغرب وإيمانهم بتفوقه ربما لأن الأمة التركية المولعة أبدا بالغزو والفتح قومت حضارتها بمعيار التفوق العسكري فحين تلاحقت الهزائم في البلقان تحديدا ترجمت الهزيمة العسكرية على أنها هزيمة فكر وأسلوب حياة.
ليس في بيئته الكردية النائية ما يوحي بمكانة وشأن، المدارس في قرى شرق الأناضول في أواخر القرن التاسع عشر لا تعدو كونها كتاتيب يقوم عليها شيخ حافظ للقرآن، المجتمع مستنيم إلى تعلق وجداني بالطرق الصوفية النقشبندية الساعدة في تركيا آنذاك، أطلع صاحبنا على شيء من العلوم الحديثة وأدرك للتو أن على المسلمين أن يدرسوها لذلك أوجد صلة كادت أن تفقد بين العقل والوجدان بين الفكر والحس، انتبه النورسي إلى أن التعلم عدة وأداة العلم ليس سلاحاً كما يقول دعاة العلم اليوم.. العلم أداة وأداة فقط ومن يرى في العلم سلاحاً يضمر أن العلوم الطبيعية يجب أن تدمر ما عداها وأن وظيفة العلم هي الفتك بالدين والفلسفة والآداب والفنون، في تركيا أواخر القرن التاسع عشر ارتبط التحديث بالتغريب انتبه النورسي إلى ذلك رأى الأرمن والنصارى والعلمانيين يتمتعون بالعلم الحديث وأولاد المسلمين مخيرين بين التماس العلوم الحديثة والابتعاد عن دينهم وبين الاحتفاظ بالعقيدة ومن ثم التخلف والتراجع أي الاستمرار في التعلم وفق مناهج المدرسة التقليدية الموجودة في عصر ما قبل جاليليو ونيوتن، تفوق العلمانيون الأتراك وأبناء الجارات والأقليات المسيحية من أرمن ويونانيين وغيرهم على المسلمين وآلت إليهم الإمرة في معظم مفاصل الدولة.
ظل فكر النورسي شاب يتطور ويتشعب بينما تجمعت نظر العاصفة التي ستقتلع الخلافة العثمانية في تركيا بعد حين، كبرت همومه وهواجسه واستشعر الخطر وما عادت القرى والدساكر والمدن الصغيرة في شرق الأناضول كافية لاحتواء فكره الأخذ في التوجه، كان قد فرغ من حفظ أكثر من سبعين مصدراً للأولين عن ظهر قلب، ذاع صيته وصار يعرف ببديع الزمان وصار تحفة عصره، ارتحل إلى مدينة وان بالقرن التاسع عشر يقترب من خواتمه، في وان تصاحب وطاهر باشا والي المقاطعة، هناك أطلعه الباشا على خبر نشرته الصحف عن كيد يكاد للدين كان له أثر لم ينمحي لازمه طيلة عمره.. خبر في صحيفة جعل لحياته بؤرة محددة وقطع له الشك باليقين بأن الدين مستهدف.
في عام 1910 قرر الذاهب إلى الحج وقيل إلى زيارة الأزهر لكنه توقف في دمشق ولن يتم رحلته إلى الحجاز، هناك رأى بدايات التصدع والتفكك في الأمة وظهور النزاعات الانفصالية التي ردت بها الشعوب التابعة للخلافة على حملات التتريك الصادرة من اسطنبول، في دمشق فطن إلى أن نخبة الاتحاد والترقي ليست وحدها منتصرة للدولة القومية على حساب الأمة بل أن الأقاليم مستها ريح القومية الشمالية الغربية وصارت ترد على النار بالمثل، هذا التراشق أصاب الإسلام ولكن ليس في مقتل.
بين عام 1912 عام اندلاع حرب البلقان وبدء الحرب العظمى برز النورسي مقاتلا ومفتيا قاد الفدائيين على جبهة البلقان وأصدر فتاوى الجهاد وانتقل بصحبة ثلة من تلاميذه بين جبهات القتال، في خنادق قتال شرس أملى كتابه المهم إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز وعندما دخل الجيش الروسي مدينة أوتليس دافع النورسي وطلابه دفاعا باسلا ثم أنه سقط جريحا فأسره الروح وأرسلوه إلى معسكر سجن في كسطرمة شرقي روسيا.. هناك تعرف على قسوة معسكرات الأسر السيبيرية، قامت الثورة البلشفية وانفتلت روسيا من الحرب وشاع الاضطراب في البلاد الروسية، في بيئة الانفلات هذه هرب النورسي من أسره في سيبيريا وتنقل بين رسيا وبولونيا ثم ألمانيا واستطاع العودة إلى تركيا عام 1918 ليجد نذر انهيار كامل مشوبة ببشائر صحوة كبرى، هذا الشد هذا التنافر الشديد في الاحتمالات جعله متوتر، قرأت لبديع الزمان كلام متنافر مع ما في طبعه من تأدب، كان الإنجليز يسيطرون على اسطنبول، طلب الأسقف الإنجليكاني من النورسي أن يجيب على أسئلة دعاوى الإسلام والقرآن والرسول واشترط الإنجليزي المحتل ألا تزيد الإجابة على ستمائة كلمة، قال النورسي إن رده على الأسئلة وأسلوبها لا يحتاج إلى ستمائة كلمة بل إلى بصقة واحدة بوجه الإنجليزي الصفيق.
أحس اقتراب الموت وقد بلغ الثالثة والثمانين، ففي عام 1960 طالب بإلحاح الخروج من إسبرطة والتوجه إلى أرفة حاول مريدوه ثنيه عن عزمه لكنه شيخ عنيد وصل إلى أرفة وتوفي هناك وبعد نحو شهرا من وفاته قام الجيش بانقلاب وعطلوا الحريات ثم إن الانقلابين انقضوا على قبر الشيخ ونقلوا الرفات إلى مكان مجهول، لا يعرف أحد للنورسي قبرا لكن مقابر تركيا مليئة بشواهد قبور تحمل اسمه، حركته اليوم تضم الملايين، ما تمر ليلة دون أن تعقد مئات الحلاقات لدراسة رسائله وتدبر معانيها، أعتقد أن سر نجاحه يكمن في بساطته واقترابه من فطرة الإنسان، الفطرة هي المفتاح الذي احتفظ به بديع الزمان سعيد النورسي.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*