كتب – وسيم عفيفي
في 11 رمضان من عام 94 هجرية كان مقتل التابعي الكبير سعيد بن جبير ، والذي قيل عنه ” كان أعلم الناس بالقرآن مجاهد وأعلمهم بالحج عطاء وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير”.
اسمه سعيد بن جُبير بن هشام الأسدي ولد في خلافة سيدنا علي بن أبي طالب وتحديداً بالكوفة في سنة 46 هجرية ، دخل أصبهان وأقام بها مدة ، ثم ارتحل منها إلى العراق وسكن قرية سنبلان ،كما نهل العلم على يد عدد من الصحابة ويروي عنهم ، فأخذ عن حبر الأمة عبد الله بن عباس، وكان أحد تلامذته، وسمع من عبد الله بن مغفل وعائشة أم المؤمنين وعدي بن حاتم وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة وأبي مسعود البدري وعن ابن عمر وابن الزبير والضحاك بن قيس، وأنس بن مالك وأبي سعيد الخدري. وكان من أقواله: ” الخشية أن تخشى الله عز وجل حتى تحول خشيتك بينك وبين معاصيك ، ومن يخشى الله هو الذي لا يعصى الله ، فإذا حالت الخشية بينه وبين معاصيه , فهو ممَّن يخشى الله .
ومع بزوغ نجم سعيد بن جُبير كعالم كان الحجاج والياً على العراق والمشرق وبلاد ما وراء النهر، وكان يحتل وقتها قمة المجد وذروة السلطة والسلطان خاصة بعد نجاحه في إخماد ثورة بن الزبير وقتله ثم إخضاع العراق لسلطان الدولة الأموية .
وفي ذات مرة قرر الحجاج إرسال جيش بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث من أجل غزو رتبيل ملك الترك على المناطق الكائنة بسجستان، وقام بن الأشعث بذلك واحتل جزءاً كبيراً كبير من رتبيل وغنم مغانم عديدة ووفيرة، وأرسل إلى الحجاج رسلاً زفّوا له البشرى، وحملوا معهم خُمس الغنائم لتستقر في بيت مال المسلمين، وكتب بن الاشعث للحجاج كتاباً استأذنه فيه بالتوقف عن القتال مدة من الزمن ، ليختبر مداخل البلاد ومخارجها ، ويقف على طبيعتها وأحوالها، خشية أن يتوغل في شعابها القاسية المجهولة، وتعرض الجيش للمخاطر، فاشتاط الحجاج منه غضباً ، وأرسل إليه كتاباً يَصِفُه فيه بالجبن والخنوع ويهدِّده بإقالته عن القيادة. جمع عبد الرحمن الجند، وقادة الكتائب ، وقرأ عليهم كتاب الحجاج ، واستشارهم فطالبوه بالخروج على و نبذ طاعته وطمأنوه، وانشق عبد الرحمن بن الأشعث بجيشه الممتلئ كراهيَةً عن الحجاج ، واندلعت بين بن الاشعث والحجاج معارك طاحنة ، انتصر فيها عبد الرحمن فأخذ سجستان ، وجزء من بلاد فارس. كما اغتر عبد الرحمن بنصره فقرر انتزاع الكوفة والبصرة من يد الحجاج، وبالتوازي مع ذلك قرر أهل الذمّة الدخول في الإسلام، ليتخلصوا من دفع الجزية ، وتركوا القرى التي يعملون فيها، واستقروا في المدن، ما أدى إلى قلة الخراج وقرب افلاس الهيئات المالية.
فكتب إلى ولاته في البصرة وغيرها كتباً, يأمرهم فيها أن يجمعوا كل من نزح إلى المدن من أهل الذمة وأن يعيدوهم إلى القرى بأي ثمن ، وتم إجلاء أعداد كبيرة من هؤلاء عن ديارهم، وأبعدوهم عن موارد أرزاقهم وأخرجوا معهم نساءهم وأطفالهم ، ودفعوهم إلى الرحيل إلى القرى، بعد أن مضى على فراقهم لها فترة كبيرة ، فأخذ النساءُ والولدانُ والشيوخُ يبكون وينادون وا محمداه.
فخرج إليهم فقهاء البصرة ليغيثوهم ، ويشفعوا لهم ، فلم يتمكنوا من ذلك فقرروا الخروج عن الحجاج، واغتنم عبد الرحمن بن الأشعث الفرصة , ودعا الفقهاء والقراء إلى مساندته ، فاستجابت له كوكبة من التابعين ، وعلى رأسهم سعيد بن جبير ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، والشعبي ، وغيرهم. وكان النصر أول الأمر لابن الأشعث ومَن معه على الحجاج وجنوده ، ثم بدأت كفةُ الحجاج ترجح حتى هُزم ابن الأشعث وهرب ناجياً بنفسه ، واستسلم جيشه للحجاج وجنوده.
واجتمع الحجاج بمن كان مع بن الأشعث وكان من ضمنهم سعيد بن جبير، فاستدعاه ودارت بينهما سجالات أجملت في حوار تاريخي مشهور في كتب التاريخ
هذا الحوار المشهور ، في سنده نظر وفق ما جاء بملتقى الحديث
فالإمامُ الذهبي بعد ذكر الروايةِ : هَذِهِ حِكَايَةٌ مُنْكَرَةٌ ، غَيْرُ صَحِيْحَةٍ .
والقصةُ في سندها حَفْصُ بنُ سليم أَبُو مُقَاتِلٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ .
قال الذهبي في ” الميزان ” (1/557) : هو راويٍ هاوي عند قتيبة ، وكذبهُ ابنُ مهدي لكونهِ روى عن عبيدِ الله عن نافع عن ابنِ عمر مرفوعاً : من زار قبرَ أمهِ كان كعمرةٍ .
وسئل عنه إبراهيمُ بنُ طهمان فقال : خذوا عنهُ عبادتهِ وحسبكم .
وقال الحافظُ ابنُ حجر في ” اللسان ” (2/393) : قلتُ : ووهاهُ الدارقطني أيضاً .
قال الترمذي : حدثنا موسى بنُ حزام ، سمعتُ صالحَ بنُ عبدِ اللهِ قال : كنا عند أبي مقاتل السمرقندي ، فجعل يروي عن عونِ بنِ شداد الأحاديثَ الطوال التي كانت تروى في وصيةِ لقمان ، وقتلِ سعيدِ بنِ جبير ، وما أشبه ذلك ، فقال له ابنُ أخيه : يا عمُ لا تقل حدثنا عون ، فإنك لم تسمع هذه الأشياء ، فقال : بلى ؛ هو كلامٌ حسنٌ .ا.هـ.
والحوار هو
قال الحجاج لسعيد : ما اسمك؟
قال : سعيد بن جبير
الحجاج : أنت الشقي بن كسير؟
سعيد : أبي كان أعلم باسمي منك
الحجاج : شقيت وشقي أبوك
سعيد : الغيب يعلمه الله
الحجاج : لأبدلنك بالدنيا نارا تلظي
سعيد : لو علمت أنك كذلك لاتخذتك إلها
الحجاج : ما رأيك في علي بن أبي طالب أهو في الجنة أو في النار؟
سعيد : لو دخلتها وعلمت من فيها لعرفت أهلها ولكني مازلت في دار الفناء
الحجاج : ما رأيك في الخلفاء؟
سعيد : لست عليهم بوكيل
الحجاج : أيهما أحب إليك؟
سعيد : أرضاهم لخالقي
الحجاج : فأيهم أرضاهم لله؟
سعيد : علم ذلك عند من يعلم سرهم ونجواهم
الحجاج : لماذا لا تضحك كما نضحك؟
سعيد : وكيف يضحك مخلوق خلق من الطين ، والطين تأكله النار
الحجاج : ولكنا نحن نضحك
سعيد : لأن القلوب لم تستوي
بعد الحجاج : اختر لنفسك قتلة أقتلك بها ؟
سعيد : أختر أنت يا حجاج .. فو الله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة
الحجاج : أتحب أن أعفو عنك ؟
سعيد : ان كان العفو فمن الله
الحجاج لجنده : اذهبوا به فاقتلوه
فضحك سعيد وهو يتأهب للخروج مع جند الحجاج
فقال الحجاج : لماذا تضحك؟
سعيد : لأني عجبت من جرأتك علي الله ومن حلم الله عليك
الحجاج : اقتلوه
سعيد : إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين
الحجاج : وجهوا وجهه إلي غير القبلة
سعيد : فأينما تولوا فثم وجه الله
الحجاج : كبوه علي وجهه
سعيد : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري
الحجاج : اذبحوه
سعيد : أما أني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ثم رفع رأسه إلي السماء وقال خذها مني يا عدو الله حتى نتلاقى يوم الحساب ‘اللهم اقصم أجله ، ولا تسلطه علي أحد يقتله من بعدي
وقُتل سعيد بن جبير في 11 رمضان سنة 95 هـ الموافق 714م ، وله من العمر تسع وخمسون سنة، واستجاب الله لدعوته وأصيب الحجاج في آخر عمره بما يظهر أنه سرطان المعدة، وتوفي بمدينة واسط في العشر الأخير من رمضان في نفس العام .