كتب – وسيم عفيفي
وفق ما جاء في تقارير إخبارية نقلاً عن وثائقي عربي بالبوابة ، فلعل أغرب ما وُثق عن معارك حرب أكتوبر هو ما يخص معركة المزرعة الصينية التي وقعت يوم ١٥ أكتوبر ١٩٧٣ في الضفة الشرقية لقناة السويس وما زالت تحوى الكثير من الغموض والتفاصيل التي لم تُرو بعد، حيث خططت تل أبيب لاختراق القوات المصرية عبر المنطقة الواقعة بين الجيش الثانى والجيش الثالث الميدانيين في تلك المنطقة، لفتح مساحة تكفى لتجميع جسور عائمة لعبور القناة، وبعد ذلك تتحرك الفرقة ١٤٣ المدرعة الإسرائيلية لقطع خطوط الإمدادات للجيش الثالث المصرى.
وسر تسمية المعركة بالمزرعة الصينية يرجع إلى أن المنطقة كانت في مزارع تجارب يابانية في سيناء، لكن الجنود الإسرائيليين عندما وجدوا أدوات ومعدات مكتوبا عليها باللغة اليابانية ظنوا أنها صينية ومن هنا أتى الاسم، وتمت المعركة بين لواء مشاة ميكانيكى للجيش المصرى وفرقتين مدرعتين مع كتيبة مظلات للجيش الإسرائيلى، وأبرز قادة المعركة من مصر سعد الدين الشاذلى وسعد مأمون وعبدالمنعم واصل وعبدالحميد عبدالسميع، ومن إسرائيل حاييم بارليف وإراهام آدان وأرئيل شارون وعوزى يائيرى وإسحاق موردخاى.
وبحسب كثير من الخبراء الإسرائيليين فإنها تعد واحدة من أكثر المعارك إثارة للجدل في إسرائيل، وتناولها العديد من العسكريين في سير ذاتية لهم مثل أرئيل شارون، وأفراهام برين، وحنوك بارتوف ديفيد أليعازر وغيرهم، فضلا عن الفيلم الإسرائيلى التسجيلى «المزرعة الصينية» والتي ستتناول «البوابة» دراسته من زاوية جديدة، للكشف عن المزيد من جوانب تلك المعركة التي لا تزال مبهمة حتى يومنا هذا.
بداية الفيلم لأحد أبناء الجنود الإسرائيليين الذين نجوا من المعركة وهو إيهريل تيوب، ونفذه بعد ٢٥ عاما من حرب أكتوبر، أي في ١٩٩٨، كان عمره ٩ سنوات عندما حدثت، ولأن والده عانى الكثير من الكوابيس التي يرى فيها أصدقاءه وهو يدفنهم في رمال سيناء، ولم يعد بصحة نفسية جيدة منذ عودته من سيناء، قرر أن يبحث عن حقيقة ما جرى في تلك المعركة التي أدت إلى تلك الحالة الرهيبة التي وصل إليها والده، الغريب في الأمر أنه أثناء تصويره للفيلم فإن كل من تحدث معه ممن نجا لم يكن بحالة جيدة أيضا، والأخطر أنهم لم يذكروا كل الحقائق، وكأنها صندوق أسود لا يجب فتحه.
وصف الفيلم الإسرائيلى الجنود المظليين بأنهم كانوا ثعالب حرب، وكان من أبرز الجنود الإسرائيليين الناجين شاؤول موفاز وإيهود باراك، وهما أهم من بحث عن دور سياسي عند عودتها، سجل الفيلم مع جنود آخرين لم يسعوا لسلطة في تل أبيب ومنهم أمير كيرن قائد سرية الذي قال إنه يحاول أن ينسى كل ما حدث في تلك المعركة، ناتان شونارى قائد كتيبة رفض التحدث طيلة ٢٥ عاما حتى قام تويب بتسجيل الفيلم ووافق على التحدث والذي وصف المعركة بأنها كانت صدمة وغير متوقعة، وكان من المقرر أن يتم تصوير الفيلم الوثائقى في صحراء سيناء، وكان سيتم جمع جنود مصريين وإسرائيليين معا ولكن هذا التخطيط لم ينجح.
ميخا بن عارى الملقب بأبو حرب العصابات الإسرائيلية والذي عمل في الموساد بعد عودته قال إن المظليين من المفترض أن يعبروا القناة وعند حضورهم كان من المفترض وجود قوات إسرائيلية في استقبالهم، ولكن بدلا من ذلك كان هناك جيشان مصريان ربما كان يقصد الثانى والثالث.
نوح كينارتى الذي خدم بعد عودته كمساعد لثلاثة رؤساء وزراء إسحاق رابين وشيمون بيريز وإسحاق موردخاى، من أكثر الأشخاص التي ترى في عيونهم الرعب أثناء التسجيل معه، وحاول التهرب من كل سؤال وعدم الرد عليه هل بسبب تخوفه النفسى من السرد أو من خجله، لما لحق بهم من عار وهزيمة في تلك المعركة، إما لأنها أوامر عليا بألا يتحدثوا عن تلك المعركة، لكنه وصف الدبابات والمركبات والجثث المحترقة برائحة الحرب المتفحمة تسرى في داخلهم حتى شعروا بالخوف.
دكتور نافتالى هداس لم يتحدث إلا عن دفنه للجنود الإسرائيليين، وأنه لا يجب التطرق إلى أكثر من ذلك عن المعركة. بينما قال أحد أفراد الطاقم الطبى الإسرائيلى إيلان وينير بشكل أكثر جرأة، لكنه متحفظ أيضا، حيث قال بالحرف الواحد إنهم كانوا يظنون أنهم الأقوى، ولا أحد يستطيع هزيمتهم، وأن قادتهم أرسلوهم لقتال جيش أكثر احترافا منهم، مضيفا أنهم عرفوا في تلك المعركة معنى الحرب. كان الأمر مختلفا عما تدربوا عليه وأعطوا ظهورهم للجنود المصريين وهربوا، واصفا أحد جنود الجيش الذي لا يقهر بأنه كان يبكى، وآخر أصيب بالشلل بسبب الصدمة.
الجندى الإسرائيلى يورام نهارى يامو، وصف الجندى المصرى بأنه كان أكثر جاهزية منهم وأفضل بكثير من أي جندى مظلى إسرائيلى، وعند التسجيل مع أرئيل شارون كان أكثرهم مراوغة، وأمنون رشيف، قائد لواء ١٤، اعترف بأن القوات الإسرائيلية كانت تهرب من قوة الجيش المصرى، حيث وجدوا أنفسهم وسط كمائن نصبها آلاف الجنود المصريين.
أبرز ما قيل يوضح جبن الجندى الإسرائيلى، فهناك وحدات قامت بالاختباء في الصحراء، شارون كان ينام للظهر ويأمر جنوده بعدم إيقاظه، لم يكونوا أبطالا، بل كانوا مجبرين، وقد وصل إلى علمهم القضاء على وحدات أخرى في مناطق مختلفة في سيناء.
والغريب في شهادات الناجين من المعركة هو اتفاقهم على قوة الجندى المصرى ووصفهم للأسلحة السوفييتية ومنها طائرات سوخوى وصواريخ فروج وساجر، وأسلحة كلاشينكوف ومدفعية تحرق كل الدبابات الإسرائيلية، والتساؤلات لماذا معظم من نجوا من المعركة الصينية تحديدا وصلوا إلى مناصب سياسية في إسرائيل عند عودتهم هل هي مقابل سكوتهم عن تفاصيل المعركة؟ ما هو سر الكوابيس والحالات النفسية التي وصل إليها الجنود المشاركون فيها؟
بعيدا عن الفيلم الوثائقى يقول يوريك فارتا، أحد الجنود الذين نجوا من المعركة: «أعتقد أننى وزملائى أرسلنا إلى هذه المعركة لنكون طعاما للدبابات».
ويقول شوكى فاينشتين: «لقد كانت صواريخ آر بى جى الروسية مفاجأة الحرب المرعبة لسلاح المدرعات الإسرائيلى، لقد كانت مفاجأة كريهة بكل المقاييس، لم نتدرب على مواجهتها من قبل، كما لم نتدرب على تخليص جرحى في ميدان مكشوف، سماؤه تمطر صواريخ مصرية مفترسة».
أما الجنرال موشيه عفرى فقال: «لقد فاجأنا الجنود المصريون بشجاعتهم وإصرارهم، لقد تربى أبناء جيلى على قصص خرافية عن الجندى المصرى الذي ما إن يرى دبابة تنقض عليه حتى يخلع حذاءه ويبدأ في الهرب بعيدًا، وهذا ما لم يحدث في المزرعة الصينية، استيقظنا على الحقيقة المرة، لم تنخلع قلوبهم أمام الدبابات، كانوا يلتفون قى نصف دوائر حول دباباتنا، ويوجهون صواريخ (آر بى جى) في إصرار منقطع النظير، ليس لدى تفسير لهذا الموقف سوى أنهم كانوا سكارى بالنصر، وفى مثل هذه الحالة ليس للدبابة أي فرصة في المعركة».
وقال موشيه ديان، عقب زيارته للمزرعة الصينية يوم ١٧ أكتوبر ١٩٧٣ برفقة الجنرال أرئيل شارون: «لم أستطع إخفاء مشاعرى عند مشاهدتى لها، فقد كانت مئات من العربات العسكرية المهشمة والمحترقة متناثرة في كل مكان، ومع اقترابنا من كل دبابة كان الأمل يراودنى قى ألا أجد علامة الجيش الإسرائيلى عليها وانقبض قلبى، فقد كان هناك كثير من الدبابات الإسرائيلية».
ووصف ديان أيضا، في مذكراته، قصة لقائه مع الكولونيل عوزى يائيرى، قائد قوة المظلات الإسرائيلية التي شاركت في معركة المزرعة الصينية قائلا: «كنت أعرف عوزى جيدا منذ كان مديرا لمكتب رئيس الأركان في عهد الجنرال حاييم بارليف، وكنت أعرف أنه فقد كثيرا من رجاله في المعركة، لكننى لم أتوقع أن أراه على هذه الصورة من الاكتئاب، وكان وجهه يحمل علامات حزن تفوق الوصف».