كتب – وسيم عفيفي
وفق البيان ومع سيرة عماد الدين زنكي ، فالرّها مدينة قديمة مشهورة من أمهات مدن إقليم الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات. وهي تقع بين الموصل والشام إلى الشمال من مدينة حلب، واسمها بالرومية أديسا، وسكانها تنوّعت أصولهم ما بين عناصر سامية قديمة وغالبية سريانية منتمية إلى الآراميين، وقد اعتنقوا المسيحية.
وتعتبر مدينة الرها أهم أمكنتهم الدينية والتاريخية
وكان الذي فتحها هو الصحابي عياض بن غنم سنة 17هـ وكان فتحها صلحاً ودخل أهل سائر الجزيرة فيما دخل فيه أهل الرهاء من الصلح وهي اليوم تحت سيادة الدولة التركية وتُدعى (أورفا).
وقد وصفها الحميري في (الروض المعطار) فقال: الرهاء – بضم الراء والمد – مدينة من أرض الجزيرة متصلة بحران، وإليها ينسب الورق الجيد من ورق المصاحف، وهي مدينة ذات عيون كثيرة عجيبة تجري منها الأنهار، وبينها وبين حران ستة فراسخ. والرهاء مدينة رومية عليها سور حجارة تدخل منها أنهار وتخرج عنها، وهي سهلية جبلية كثيرة البساتين والخيرات، مسندة إلى جبل مشرفة على بساط من الأرض ممتد إلى حران وليس في جميع بلاد الجزيرة أحسن منها منتزهات ولا أكثر منها فواكه، وعنابها على قدر التفاح، وقد ذكر أنه لم يوجد بناء خشب أحسن من بناء كنيستها، لأنها مبنية بخشب العناب… إلخ.
وقد احتل الصليبيون الرها سنة 1097م، ونظراً لأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية والدينية، فقد أنشؤوا فيها إمارة صليبية كانت هي أولى إماراتهم في الشرق.
ولم يكد يمرّ عامان على تأسيس الرها، حتى أصبح أميرها ومؤسسها (بلدوين) ملكاً على مملكة بيت المقدس، فتولى أمرها بلدوين دي بورغ حتى سنة 512هـ/1118م، ثم تبعه جوسلين الأول، فجوسلين الثاني حتى سنة 539هـ/1144م، وهو تاريخ تحريرها من قبل عماد الدين زنكي.
وكانت إمارة الرها هذه أكبر وأخطر مستعمرة صليبية في المشرق بعد مملكة بيت المقدس، وكان خطرها يرجع إلى كونها أقيمت في عمق بلاد المسلمين وليس على الساحل، كبقية الإمارات الصليبية، وكان وجودها في داخل بلاد المسلمين قد جعلها تشكل حداً فاصلاً بين الأتراك السلاجقة في كل من إيران والأناضول، من جهة، وبين العراق والشام من جهة أخرى
ومن ناحية ثانية، فإن هذه الإمارة الصليبية كانت تشكل خطراً كبيراً على مدينة الموصل وما يتبعها، مثل: نصيبين، ورأس العين، وماردين، وحران، والرقة، وكذلك بالنسبة لديار بكر وما يتبعها في أعالي دجلة، وكانت في نفس الوقت تشكل تهديداً لمدينة حلب ولشمال الشام كله، لا سيما مع وجود إمارة إنطاكية بإزاء مدينة حلب على الساحل الشامي، هذا فضلاً عما يمثلهُ قربها من العراق من تهديد للخلافة الإسلامية، التي تعد رمز الوحدة بين المسلمين.
كما كانت هذه الإمارة، من جهة ثالثة، مصدر خطر كبير على الطريق البري الممتد من مدينة الموصل إلى مدينة حلب، وكان جوسلين (كونت الرها) يطلق قواته للإغارة على بلاد المسلمين القريبة من الرها، وقطع الطرق، وممارسة أعمال السلب والنهب، بصورة مستمرة.
كما أنه كان قد استغل انشغال عماد الدين زنكي بقتال الصليبيين في جنوب الشام، فقام بتوسيع حدود إمارته، فبسط سيطرته على مناطق كثيرة في غربي الفرات.
ولم يكن عماد الدين زنكي غافلاً عما كان يقوم به جوسلين كونت الرها وقواته من تحرشات واستفزازات للمسلمين، لكنه ظل يترقب الفرصة المناسبة لتوجيه ضربة قاضية لهذه الإمارة الصليبية المعادية، وقد كان هذا الخيار أشدّ إلحاحاً بعد تزايد خطر الكونت جوسلين واطراد أعماله العدوانية ضد المسلمين وممتلكاتهم، وكثرة شكاوى المسلمين منه إلى عماد الدين زنكي.
مع كون هذه الإمارة الصليبية كانت شوكة في خاصرته، وكانت تشكل تهديداً مباشراً لإمارته، وتقف حجر عثرة في طريقه تحول بينه وبين التوجه لقتال الصليبيين في جنوب بلاد الشام، حيث تتركز قواتهم
وهكذا وضع عماد الدين زنكي مسألة تحرير مدينة الرها نصب عينيه، وأعدّ لذلك خطة محكمة أحاطها بالسرية التامة، كما أنه لم يُظهر أي سوء نية تجاه أميرها (جوسلين)، وذلك لضمان نجاح الخطة وعدم فشلها؛ ذلك أن الكونت جوسلين إلى جانب شهرته بالغدر والقسوة والأطماع الواسعة، كان معروفاً بالدهاء والشجاعة والفروسية، ومتميزاً بالكفاءة القيادية والإدارية، ولو أنه علم، أو حتى شك، بما يدبره له عماد الدين لاستعد له، ولاستنفر قوى الصليبيين التي من حوله، وحشدها إلى جانبه، ولظل متأهباً على الدوام لصد أي هجوم على إمارته قد يقوم به ضده.
ففي نوفمبر 1144م خرج عماد الدين زنكي بقواته من مدينة الموصل متظاهراً بغزو ديار بكر الواقعة في أعالي دجلة، بعد أن كان قد حيل بينه وبينها في العام السابق. ويبدو أنه كان يتابع بصورة سرية تحركات الكونت جوسلين. وقد يكون سبب اختياره لهذا التوقيت بالذات هو علمه بأنه موعد مغادرته إلى قاعدة إمارته، إلى إمارة إنطاكية، لحضور احتفالات عيد الميلاد التي تُقام فيها سنوياً حسب العادة – بما يتخلل هذه المناسبة عند النصارى من ضروب اللهو والعربدة والصخب، والتي كان يميل إليها الكونت جوسلين.
وفعلاً، فمع خروج عماد الدين زنكي على رأس جيشه من مدينة الموصل، غادر الكونت جوسلين مدينة الرها متوجهاً إلى إنطاكية وهو في تمام الاطمئنان على مدينته، نظراً لتصوره أن عماد الدين زنكي منشغل عنه، ولما علم عماد الدين بأمر مغادرته، أرسل مباشرة إلى أمير حماه يطلب منه توجيه قواته إلى مدينة الرها على وجه السرعة، وما لبث هو نفسه حتى انحرف بقواته غرباً، فأطبق الجيشان (جيش حماه وجيش الموصل) على مدينة الرها في وقتٍ واحد، وذلك في 28 نوفمبر 1144م، وأحكما الحصار حولها، وباشر النقابون في العمل لفتح ثغرات في سور المدينة تحت غطاء الهجمات التي كانت تشنها القوات الإسلامية على حامية المدينة.
وقد استمر الحصار أربعة أسابيع كان الكونت جوسلين قد علم خلالها بما تتعرض له قاعدة إمارته، فعاد أدراجه إليها، لكنه لم يجرؤ على الاقتراب منها، ولجأ إلى قرية مجاورة على الضفة الغربية للفرات تدعى «تل باشر»، ومكث فيها منتظراً وصول المدد من إمارة إنطاكية ومن مملكة بيت المقدس، اللتين كان قد بعث إليهما يستنفرهما لنجدته، إلا أن الجيوش الصليبية وصلت بعد أن كانت الجيوش الإسلامية قد اقتحمت المدينة ودخلتها عنوة، بما في ذلك اقتحام قلعتها الحصينة.
وقد كان للمباغتة دورها الحاسم في سرعة سقوط قلعة المدينة العصية بأيدي قوات عماد الدين التي داهمتها في وقت لم تكن فيه حاميتها مستعدة للصمود لحصار طويل.
وهكذا دخل عماد الدين مدينة الرها، وأمر جنوده برد كل ما أخذوه من أهلها دون وجه حق، وسار فيهم بالعدل والسيرة الحسنة، ومنع من التعرض لكنائسهم وعبادتهم، وكان نموذجاً رائعاً للقائد المسلم الفاتح في سماحته وتواضعه وعفته. وعاد الأذان يصدح من جديد في هذه المدينة بعد أن توقف نحو خمسين عاماً بسبب الاحتلال الصليبي، ولم يترك عماد الدين المدينة إلا بعد أن عادت الطمأنينة إلى أهلها، وأعاد ترميم أسوارها وتحصينها، ونظم حامية للدفاع عنها، وزودها بما تحتاج إليه من مؤن وعتاد ووسائل دفاع.
استطاع عماد الدين زنكي بعد تحرير هذه المدينة المهمة تصفية الوجود الصليبي في شرقي الفرات، فاستولى على ما كان للصليبيين من حصون ومعاقل هناك، كما تمكن من تحرير مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت تابعة لإمارة الرها في غرب الفرات، كما تم تأمين الطريق الرئيسية الممتدة من الموصل إلى حلب والطرق المتفرعة عنها من غارات الصليبيين، فأمن المسلمون على أموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم في تلك الأنحاء بعد طول قلقٍ ومعاناة.
وقد كان تحرير مدينة الرها أعظم انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ أن جاؤوا إلى المشرق الإسلامي، فانتعشت بهذا الانتصار آمال المسلمين، وارتفعت معنوياتهم، وعلت صيحتهم الداعية للجهاد والتعاون والتضامن لطرد الغزاة الصليبيين من ديار المسلمين، لا سيما أن هذا الانتصار برهن على قوة المسلمين وما يتوافر لديهم من إمكانيات تتيح لهم إلحاق الهزائم بالصليبيين والنيل منهم.
كما أن هذا الانتصار عزز من سمعة ومكانة الأتابك عماد الدين زنكي، وأعلى من شأنه بين أمراء المسلمين، ودعم موقفه في جهاده ضد الصليبيين في بلاد الشام. فهذا الخليفة العباسي يبتهج بهذا الانتصار فيرسل وفداً إلى عماد الدين محملاً بالهدايا الثمينة ويمنحه لقب (الملك الغازي)، تشريفاً له وإيذاناً بإطلاق يده في مواجهة الصليبيين.
ومن جهة أخرى، فقد هزّ تحرير الرها جبهة الفرنج في الصميم، وأثار ذلك قلقاً شديداً لدى البابوية والغرب الأوروبي، وأشعل نيران الحملة الصليبية الثانية التي كانت إنطاكية العنوان الرئيسي لها، نتيجة كونها أصبحت مكشوفة أمام المسلمين، باعتبار أن مدينة الرها المحررة كانت خطها الدفاعي الحصين. وقد عد بعض المؤرخين الأوروبيين تحرير الرها بداية النهاية لمملكة بيت المقدس الصليبية.
بيد أنه لم يكتب للأتابك عماد الدين زنكي مواصلة مشواره الجهادي والتصدي لهذه الحملة، فقد لقي حتفه غيلة في 6 ربيع الآخر 540هـ الموافق 15 سبتمبر 1146م، على يد كبير حراسه، وكان من الحشاشين الفاطميين ، وذلك أثناء حصاره قلعة «جعبر»، على نهر الفرات، بعد مرور عام وبضعة أشهر على تحريره مدينة الرها.
وبعد استشهاده حاول الصليبيون استعادة الرها من جديد، إلا أن ابنه الملك الصالح نور الدين محمود، الذي خلفه على إمارة حلب، تصدى لهم بكل جسارة، وكان نور الدين هذا من خيرة حكام المسلمين وأصلحهم وأتقاهم، بعد عمر بن عبد العزيز، كما قال ابن كثير وغيره، وكان يفوق والده عزماً وحماسة وهمة للجهاد في سبيل الله، ولطرد الصليبيين الجاثمين في بلاد المسلمين، وكان له شرف التصدي للحملة الصليبية الثانية. وفي عهده تغيّر الموقف تغيّراً حاسماً لصالح المسلمين، وخاب أمل المرجفين الذين راهنوا على انقسام مُلك عماد الدين زنكي وتوقف عجلة الجهاد بعد وفاته.