كتب – وسيم عفيفي
لا كلام عن حصار عمورية دون الكلام عن ما أسفرت عنه فتنة خلق القرآن من نتائج على الدولة الإسلامية ـ وفق قصة الإسلام ـ ، أنِ اتَّصل قادتها -وعلى رأسهم بابك- بإمبراطور الروم يستحثُّونه، ويطلبون منه مهاجمة الخلافة الإسلامية العباسية التي انشغلت بقتالهم، وكان مما قالوه له: إنَّ المعتصم لم يُبْقِ على بابه أحدٌ، فإنْ أردت الخروج إليه فليس في وجهك أحدٌ يمنعك.
واستجاب ملك الروم “توفيل ميخائيل” لاستغاثة بابك، وجهَّز جيشًا يزيد قُوامه على مائة ألف جندي، وسار به إلى بلاد الإسلام، فهاجم المدن والقرى يقتل ويأسر ويمثِّل، وكانت مدينة ملطيَّة من المدن التي خرَّبها الملك توفيل، حيث قتل الكثير من أهلها، وأسر نساءها المسلمات، حتى إنَّ عددهن بلغ ألف امرأة، وكان يمثِّل بالمسلمين فيقطع آذانهم وأُنوفهم، ويَسْمِلُ أعينهم.
وكان من بين الأسيرات امرأة هاشمية تُدعى “شراة العلوية”، استغاثت بالخليفة المعتصم في أسرها، ونقل ذلك إليه؛ فلبى استغاثتها.
كما أنَّ المسلمين جميعًا في سائر الأمصار ضجُّوا واستغاثوا في المساجد والديار، ودخل إبراهيم بن المهدي على المعتصم، فانشده -قائمًا- قصيدةً طويلة يذكر فيها ما نزل بالمسلمين، ويحضُّه على الانتصار، ويحثُّه على الجهاد
فخرج المعتصم من فوره نافرًا، عليه درَّاعةٌ من صوفٍ بيضاء، وقد تعمَّم بعمامة الغزاة، وعسكر غربي دجلة، وأرسل طائفة من الأمراء ومعهم جيش كبير إعانة عاجلة للمسلمين، وساروا إلى تلك الديار؛ فوجدوا الروم قد انسحبوا، حينئذ عادوا للمعتصم رحمه الله.
ولم يكن خليفة المسلمين ليسكت على ما حلَّ بالمسلمين، وكيف يسكت وأصوات الاستغاثات ما زالت تتردَّد أصداؤها في أذنيه، وأسرى المسلمين مع الروم؛ ولذا جمع الأمراء وسألهم: أيُّ بلاد الروم أمنع وأحصن؟ قالوا: عمُّوريَّة، لم يعرض لها أحدٌ من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عندهم أشرف من عاصمتهم القسطنطينية (بيزنطة) فقال: هي هدفنا.
وبدأ الخليفة يستعدُّ، فاستدعى الجيوش وتجهَّز جهازًا قيل: إنَّه لم يتجهَّز قبله بمثله، ولا غرو في ذلك؛ فالهدف عظيم، وقد أراد الله أن يجعلها حاسمة لا تقوم للروم بعدها قائمة، بل إنَّ أهدافه تعدَّت مجرَّد الأخذ بالثأر وتأديب الروم إلى فتح بلادهم كلها وضمِّها للمسلمين.
خرج المعتصم إلى عمُّوريَّة في (جمادى الأولى 223هـ/ إبريل 838م)، ولم تكن من عادة الحملات الكبرى الخروج في ذلك الوقت، غير أنَّ الخليفة كان متلهِّفًا للقاء، ورفض قبول توقيت المنجِّمين الذين تنبَّئوا بفشل الحملة إذا خرجت في هذا التوقيت.
وسار المعتصم في جحافل أمثال الجبال، وبعث الأمراء إلى مناطق الثغور، ووصل إلى قُرب طرطوس، وعند (سروج) قَسَّمَ المعتصم جيشه الجرَّار إلى فرقتين؛ الأولى بقيادة الأفشين، ووجهتها أنقرة، وسار هو بالفرقة الثانية، وبعث “أشناس” بقسم منها إلى أنقرة، ولكن من طريقٍ آخر، وسار هو في إثره، على أن يلتقي الجميع عند أنقرة.
علم المعتصم من عيونه المنتشرين في المنطقة أنَّ إمبراطور الروم قد كمن شهرًا لملاقاة الجيش الإسلامي على غرَّة، وأنَّه ذهب لمفاجأة الأفشين، وحاول الخليفة أنْ يُحَذِّرَ قائده، لكنه لم يستطع، واصطدم الأفشين بقوات الإمبراطور عند “دزمون”، وألحق الأفشين بإمبراطور الروم هزيمة مدوِّية في (25 من شعبان 223هـ/ 838م)، ولم يَحُلْ دون النصر الضباب الكثيف الذي أحاط بأرض المعركة أو المطر الغزير الذي انهمر دون انقطاع، وهرب الإمبراطور إلى القسطنطينية، وبقي قسم من جيشه في عمُّوريَّة بقيادة خاله “مناطس” حاكم “أناتوليا”.
دخلت جيوش المعتصم أنقرة التي كانت قد أُخليت بعد هزيمة الإمبراطور، وتوجَّهت إلى عمورية فوافتها بعد عشرة أيام، وضربت عليها حصارًا شديدًا.
بدأ الحصار في (6 رمضان 223هـ/ 1 أغسطس 838م)، وكانت عمورية مدينة عظيمة جدًّا، ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة، وقد تحصَّن أهلها تحصُّنًا شديدًا، وملئوا أبراجها بالرجال والسلاح، ولكنَّ ذلك لم يَفُتَّ في عضد المسلمين. في الوقت نفسه بعث إمبراطور الروم برسوله يطلب الصلح، ويعتذر عمَّا فعله جيشه بمدينة ملطية، وتعهَّد بأن يبنيها ويردَّ ما أخذه منها، ويُفرج عن أسرى المسلمين الذين عنده، لكنَّ الخليفة رفض الصلح، ولم يأذن للرسول بالعودة حتى أنجز فتح عمورية. ابتدأت المناوشات بتبادل قذف الحجارة ورمي السهام، فقُتل كثيرون، وكان يمكن أنْ يستمرَّ هذا الحصار مدة طويلة، لولا أنَّ أسيرًا عربيًّا قد أسره الروم دلَّ الخليفة المعتصم على جانبٍ ضعيفٍ في السور، فأمر المعتصم بتكثيف الهجوم عليه حتى انهار، وانهارت معه قوى المدافعين عنه بعد أن يئسوا من المقاومة.