كتب – وسيم عفيفي
يكمن دائماً سر التاريخ الإنساني في القاعدة الأولى و الأخيرة بأن العلاقة بين الناس علاقة تنافسية أكثر منها تجانسية ، ولذا فالصراعات لا تنتهي .
ويتخلص حال العراق في أنه أكثر بلد تتسم بالصراعات السياسية الحادة والدموية على امتداد تاريخها ، ولذا فيحتل تاريخ العراق المركز الثاني في قائمة التواريخ ذات طباع الصراعات السياسية الحادة ، متقدماً على التاريخ اليمني بنقطة ومتأخراً عن التاريخ السوري .
أزمات تاريخية طاحنة عصفت بالعراق أسست تاريخه ، وخَطَّت حاضره ورسمت مستقبله .
وكانت صفحة الخمسينيات من القرن الماضي إحدى أكثر الصفحات دموية في فصل الصراع السياسي الحاد بكتاب الدم الذي سطر تاريخ العراق .
كانت فترة الخمسينيات زاخمة بالأفكار السياسية البراقة وكانت مصدرها مصر التي تمكن جيشها من إحداث خلخلة في نظام الحكم ، أسفر عن إزاحة الأسرة العلوية التي حكمت مصر زهاء قرن ونصف إلا ثلاث أعوام .
وصدرت مصر أفكاراً ثورية جديدة بسطوع نجمٍ جديد في فضاء الشرق الأوسط كان جمال عبدالناصر أحد أبرز المؤثريين في الشرق الأوسط وأيدولوجياته .
كان قيام الجيش بإحداث تغيير بنظام الحكم ملهماً كبيراً فيما بعد لكثير من الدول العربية كسوريا و ليبيا و العراق .
لكن كان الوضع في العراق مختلفاً عن مصر ، فمصر نزل جيشها لطرد حاكم وصلت شعبيته إلى أعلى قمة ثم نزلت إلى أسفل قاع ، فأيد الشعب حركة الجيش وانتهى النظام الملكي .
لكن في العراق ، نزل الجيش لإزاحة الأسرة الهاشمية التي حكمت العراق 40 عاماً إلا ثلاث سنوات ، ولكن لم يُسَلَّم أفراد الأسرة المالكة إلى سفن المنفى ، وإنما سُلِّمت أرواحهم قتلى .
صبيحة يوم 14 يوليو سنة 1958 م ، لم يكن بخلد النائمين في قصر الرحاب ، من الأسرة الهاشمية المالكة للعراق أي خاطر أو إشارة إلى أن هذا الصباح سيحمل لهم قدراً متشابهاً للقدر الذي لاقاه جدهم الحسين بن علي بن أبي طالب في نفس الدولة منذ قرون .
قبل يوم النهاية بيوم كان الملك فيصل الثاني يستعد للبدء في الإجراءات المتعلقة بزواجه من الأميرة فاضلة في لندن وكان الملك يعلن خططه لحفل الزفاف ثم النهوض بشأن المملكة وكانت الأميرة هيام زوجة خاله تقول “قل إن شاء الله” فيرد بـ “بالطبع إن شاء الله” ومع إلحاحها تساءل “ما سر الإلحاح ، وكأننا سنموت غداً ” وانقضى اليوم عادياً رغم وجود قلق .
مع حلول الخامسة صباح يوم 14 يوليو كان الملك فيصل الثاني وباقي أفراد الأسرة العلوية قاب قوسين أو أدنى من نهايتهم .
أصوات طلقات نارية أيقظت كل من بالقصر فزعاً ، الملك ووصيه وأميرات القصر ووصيفاتهن فضلاً عن الحرس الملكي الذين توجهوا صوب مصدر إطلاق النار المقارب لقصر الرحاب .
دقائق فاصلة عن الحقيقة كانت حادة الهلع على الجميع ، وجاء أحد أفراد الحرس الملكي إلى عبدالإله بن علي الهاشمي الواقف مع الملك في الشرفة يخبره بأن أفراداً من الجيش يطوقون القصر
لم تكن هناك فرصة للإستسلام للذهول واقفين بالشرفة ، فقد انتشرت الطلقات النارية من الخارج على الجميع أصابت أفراد الحرس وتراجع أفراد الأسرة الملكية للداخل .
سيطر عبدالسلام عارف على أهم النقاط الاستراتيجية في بغداد ، بينما تمكن القائد الأول لانقلاب يوليو عبدالكريم قاسم من إحكام قبضته على أهم النقاط العسكرية التابعة للملك .
وما هي إلا دقائق حتى استمعت الأسرة عبر الراديو إلى بيان الثورة .
ثلاث ساعات كانت شديدة السرعة في سخونة الأحداث ، فالمواجهات بين أفراد الحرس الملكي و جنود عبدالسلام عارف توشك أن تضع أوزارها بهزيمة جند الملك ، والراديو يذيع البيانات الرنانة وأغنيتي “أخي جاوز الظالمون المدى” و “والله زمان يا سلاحي” .
ومع حلول الثامنة صباحاً قرر أفراد الأسرة الملكية تسليم أنفسهم موافقين على مغادرة العراق.
وبخروجهم لباحة القصر بدأ العد التنازلي لحياتهم جميعاً .
خرج الملك فيصل الثاني – ذا الثالثة والعشرين عاماً والمصاب بالربو – رافعاً شارة بيضاء وممسكاً بمصحف ، بصحبة كل من الأمير عبد الإله بن علي الوصي على العرش ، والملكة نفيسة جدة الملك ، والأميرة هيام زوجة عبدالإله وشقيقته الأميرة عابدية .
كما خرج معهم الطباخ التركي و رازقية الوصيفة ، واثنين من عناصر الحرس الملكي .
على الجبهة الأخرى كان المقدم محمد شيخ اللطيف و العيد طه والنقيب مصطفى عبدالله والنقيب عبدالستار العبوسي هم المشرفين على عملية تسلم أفراد الأسرة المالكة .
تجمع الجميع في حديقة القصر الخضراء التي ارتوت خضرواتها بعد دقائق بالدماء .
وقفت الأسرة الملكية بين أفراد الجيش وبين عبدالستار العبوسي الذي راح يفتح النار بهيستيرية على الجميع ليظن أفراد الجيش أنه نصب كميناً فقابلوه بإطلاق النار وبين النارين كان أفراد الأسرة يترنحون يمينا ويساراً حيث الموت .
تسبب إطلاق العبوسي النار في مقتلة بشعة ، حيث قُتِل الملك فيصل الثاني بطلقتين إحداهما في الرأس والأخرى برقبته .
فيما توفيت الملكة نفيسة والأميرة عابدية بطلقات نارية في أنحاء متفرقة من جسدهما .
كما لقي الطباخ التركي حتفه مع أحد عناصر الحرس الملكي .
فيما أصيبت الأميرة هيام و الوصيفة رازقية .
نُقِلت الجثث إلى دائرة الطب العدلي في المستشفى المدني بمنطقة الباب المعظم
ودُفِنَت النساء بالمقبرة المجاورة .
بينما قُتِل الأمير عبدالإله فيما مُثِل بجثة الأمير عبدالإله بعد سحلها ، وعُلِقت على باب وزارة الدفاع انتقاماً منه كون أنه أصدر أوامره بإعدام 4 ضباط لتورطهم في ثورة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941 م ضد الهاشميين .
ونُقِل الجرحى لمستشفى الرشيد العسكري ، وهي نفس المستشفى التي استقبلت مشرحتها جثة الملك فيصل الثاني ، وبالقرب من المشرحة وفي نفس اليوم حُفِرت حفرة قريبة من المستشفى ودُفِنَت بها الجثة مع وضع علامات عليها للاستدلال على مكانها لاحقاً ، ثم تم نقلها بشكل سري إلى المقبرة الملكية في الأعظمية ب مكان خفي يقال تحت إحدى الممرات خوفا من الغوغاء والعابثين من نبش القبر.
حتى الآن فالمسؤل الأول عن عملية تصفية الأسرة الهاشمية هو عبدالستار العبوسي في عملية مجزرة الرحاب ، أما المسؤلية السياسية فمختلف فيها ، فكثير يرون أن عبدالكريم قاسم كان من أشد المؤيديين لإعدام الأسرة العلوية ، بينما كان عبدالسلام عارف يختلف معه آمِلاً في الاقتداء بثورة الجيش في مصر وآراء ترى العكس .
وبرغم كل هذا الخلاف فإن الحقيقة هي أن من سيطروا على زمام الأمر في العراق بعد سفك دماء الأسرة الهاشمية والفتك بأفرادها ، لم يهنأوا وأكلوا بعضهم بعضاً .
فما لبث الرفاق من تثبيت دعائم حكمهم حتى دب الشقاق بينهم ، فبقرار من عبدالكريم قاسم أعفي عبدالسلام عارف من مناصبه، وأبعد بتعينه سفيراً للعراق في ألمانيا الغربية ، وبعدها لفقت له تهمة محاولة قلب نظام الحكم، فحكم عليه بالإعدام ثم خفف إلى السجن المؤبد ثم الإقامة الجبرية لعدم كفاية الأدلة .
بينما قُتِل عبدالكريم قاسم بانقلاب شباط 8 فبراير 1963 م الذي تزعمه أحمد حسن البكر و عبدالسلام عارف
وبعد مقتل عبدالكريم قاسم بـ 4 سنوات قُتِل عبدالسلام عارف في حادث طائرة بين القرنة والبصرة مع عشرة من معاونيه .
أما عبد الستار العبوسي القاتل الفعلي للأسرة المالكة فلم تكن نهاية بنفس السرعة ولا الطريقة
فبعد قتله للأسرة بعامين ، عانى من اضطراب نفسي طيلة 10 سنوات نتيجة كوابيس كانت تطارده
فالعقيد المظلي عدنان محمد نوري أحد الذين عملوا لاحقاً في مكتب عبدالستار العبوسي واكتسب ثقته كان مطلعاً على حالة العبوسي .
قال العبوسي له كما يحكي عدنان نوري ، ” إنك لم تعلم بأنني لم أذق النوم منذ قتلي الملك ، يأتيني في المنام سائلاً إياي 4 أسئلة ( لماذا قتلتني؟ هل أصابك ضرر مني؟ هل قمت بخطأ ما ؟ لماذا حرمتني الحياة وأنا في ريعان الصبا ) .
وحين أراد العبوسي تغيير نظام يومه وعمله انتقل إلى الكلية العسكرية معلما وكان يصاحبه عدنان نوري ، وظلت المنامات تطارده أيضاً فنصحه نوري بالتوجه إلى روسيا للعلاج نفسياً ، فكشف له أنه سافر إلى هناك لكنه لم يرتاح أيضاً .
وفي آخر لقاء بين العبوسي ونوري حكى العبوسي عن حلم الملكة نفيسة التي كان يرى منظرها وهي تتوسل له رافعاً المصحف على رأس فيصل بأن لا يقتله ، فلم تلقى جواباً من العبوسي إلا بالرصاص قاتلاً لها وللملك ، ثم يصمت صوت النسوة يصرخن قائلين ” سنلتقي ”
فتساءل العبوسي عن لقاء الآخرة ، فنصحه نوري بالتوجه مرة أخرى للعلاج نفسياً .
لكن هذه المرة لم يذهب العبوسي إلى العلاج النفسي وإنما أنهى مصيره منتحراً برصاص مسدس 5 مل سنة 1970 م بعد 12 سنة من قيامه بالمجزرة قضى منها 10 سنوات مريض نفسياً