كتب – وسيم عفيفي
عبدالقادر الجزائري ، هو المجاهد الذي ما وجد أهل الجزائر سواه لينصّبوه إمامًا للمجاهدين وهو ابن الخامسة والعشرين، وأرادوه “سلطانًا” فأبى أن يكون إلا “أمير الجهاد”.
فهو محط أنظارنا، والجدير باعتبارنا، وهو شخصية تمتلئ حياتها بعبرة لأولى الأبصار وتذكرة لأهل الاعتبار.
هو الأمير عبد القادر ابن الأمير محي الدين الحسني “الجزائري” .
وفق القصة السورية فالشيخ عبدالقادر هو عبد القادر ابن الأمير محيي الدين الحسيني، ويعود نسب هذا البيت العربي المسلم , إلى الحسن بن علي بن أبي طالب , من أهل المدينة المنورة كان جدهم الأول “ادريس الحسني” , ثم الى جانب ابن الزبير في مكة المكرمة , ثم هاجر مع أسرته الشريفة إلى مصر , ثم إلى المغرب العربي , واستقروا في قبيلة “صنهاجة” البربرية المسلمة , المنتشرة على امتداد المغرب العربي , حيث استقبل بما يليق بمنزلة أهل بيت رسول الله .
ليتزوج من ابنة رئيس القبيلة “كنزة”, وعظمة منزلته ليؤسس لأبنائه ملكا في المغرب “الأدريسيين”.
ولد في 6 سبتمبر سنة 1807م، وذلك بقرية “القيطنة” بوادي الحمام من منطقة “وهران” بالمغرب الأوسط أو الجزائر، ثم انتقل والده إلى مدينة وهران، ولم يكن الوالد هملاً بين الناس، بل كان ممن لا يسكتون على الظلم، فكان من الطبيعي أن يصطدم مع الحاكم العثماني لمدينة “وهران”، وأدى هذا إلى تحديد إقامة الوالد في بيته، فاختار أن يخرج من الجزائر كلها في رحلة طويلة، وكان الإذن له بالخروج لفريضة الحج عام 1825م، فخرج الوالد واصطحب ابنه عبد القادر معه، فكانت رحلة عبد القادر إلى تونس ثم مصر ثم الحجاز ثم البلاد الشامية ثم بغداد، ثم العودة إلى الحجاز، ثم العودة إلى الجزائر مارًا بمصر وبرقة وطرابلس ثم تونس، وأخيرًا إلى الجزائر من جديد عام 1828م، فكانت رحلة تعلم ومشاهدة ومعايشة للوطن العربي في هذه الفترة من تاريخه، وما لبث الوالد وابنه أن استقرا في قريتهم “قيطنة”، ولم يمض وقت طويل حتى تعرضت الجزائر لحملة عسكرية فرنسية شرسة، وتمكنت فرنسا من احتلال العاصمة فعلاً في 5 يوليو 1830م، واستسلم الحاكم العثماني سريعًا، ولكن الشعب الجزائري كان له رأي آخر.
الجد المباشر للأمير عبد القادر والذي تسمى على اسمه , كان الأمير عبد القادر , الذي وصل من المغرب إلى الجزائر واستقر في منطقة ” غريس ” وأسس في منطقة ” الغيطنة ” زاويتة الصوفية , ويدعى في الجزائر وكان على الطريقة القادرية وشيخها ” عبد القادر الجيلاني ” , الذي عاش ومات في بغداد .
فرّق الشقاق بين الزعماء كلمة الشعب، وبحث أهالي وعلماء “وهران” عن زعيم يأخذ اللواء ويبايعون على الجهاد تحت قيادته، واستقر الرأي على “محي الدين الحسيني” وعرضوا عليه الأمر، ولكن الرجل اعتذر عن الإمارة وقبل قيادة الجهاد، فأرسلوا إلى صاحب المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقبل السلطان “عبد الرحمن بن هشام” سلطان المغرب، وأرسل ابن عمه “علي بن سليمان” ليكون أميرًا على وهران، وقبل أن تستقر الأمور تدخلت فرنسا مهددة السلطان بالحرب، فانسحب السلطان واستدعى ابن عمه ليعود الوضع إلى نقطة الصفر من جديد، ولما كان محيي الدين قد رضي بمسئولية القيادة العسكرية، فقد التفت حوله الجموع من جديد، وخاصة أنه حقق عدة انتصارات على العدو، وقد كان عبد القادر على رأس الجيش في كثير من هذه الانتصارات، فاقترح الوالد أن يتقدم “عبد القادر” لهذا المنصب، فقبل الحاضرون، وقبل الشاب تحمل هذه المسئولية، وتمت البيعة، ولقبه والده بـ “ناصر الدين” واقترحوا عليه أن يكون “سلطان” ولكنه اختار لقب “الأمير”، وبذلك خرج إلى الوجود الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسيني، وكان ذلك في 13 نوفمبر 1832م.
تلقى الأمير عبدالقادر مجموعة من العلوم فقد درس الفلسفة (رسائل إخوان الصفا – أرسطو طاليس – فيثاغورس) ودرس الفقه والحديث فدرس صحيح البخاري ومسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقى الألفية في النحو، والسنوسية، والعقائد النسفية في التوحيد، وايساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن، وبهذا اكتمل للأمير العلم الشرعي، والعلم العقلي، والرحلة والمشاهدة، والخبرة العسكرية في ميدان القتال، وعلى ذلك فإن الأمير الشاب تكاملت لديه مؤهلات تجعله كفؤًا لهذه المكانة .
وجه خطابه الأول إلى كافة العروش قائلاً: “وقد قبلت بيعتهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوى والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله”.
وقد بادر الأمير عبد القادر بإعداد جيشه، ونزول الميدان ليحقق انتصارات متلاحقة على الفرنسيين، وسعى في ذات الوقت إلى التأليف بين القبائل وفض النزاعات بينها، وقد كانت بطولته في المعارك مثار الإعجاب من العدو والصديق فقد رآه الجميع في موقعة “خنق النطاح” التي أصيبت ملابسه كلها بالرصاص وقُتِل فرسه ومع ذلك استمر في القتال حتى حاز النصر على عدوه، وأمام هذه البطولة اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية هدنة معه وهي اتفاقية “دي ميشيل” في عام 1834، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأمير عبد القادر، وبذلك بدأ الأمير يتجه إلى أحوال البلاد ينظم شؤونها ويعمرها ويطورها، وقد نجح الأمير في تأمين بلاده إلى الدرجة التي عبر عنها مؤرخ فرنسي بقوله: “يستطيع الطفل أن يطوف ملكه منفردًا، على رأسه تاج من ذهب، دون أن يصيبه أذى!!”.
وقبل أن يمر عام على الاتفاقية نقض القائد الفرنسي الهدنة، وناصره في هذه المرة بعض القبائل في مواجهة الأمير عبد القادر، ونادى الأمير قي قومه بالجهاد ونظم الجميع صفوف القتال، وكانت المعارك الأولى رسالة قوية لفرنسا وخاصة موقعة “المقطع” حيث نزلت بالقوات الفرنسية هزائم قضت على قوتها الضاربة تحت قيادة “تريزيل” الحاكم الفرنسي.
ولكن فرنسا أرادت الانتقام فأرسلت قوات جديدة وقيادة جديدة، واستطاعت القوات الفرنسية دخول عاصمة الأمير وهي مدينة “المعسكر” وأحرقتها، ولولا مطر غزير أرسله الله في هذا اليوم ما بقى فيها حجر على حجر، ولكن الأمير استطاع تحقيق مجموعة من الانتصارات دفعت فرنسا لتغيير القيادة من جديد ليأتي القائد الفرنسي الماكر الجنرال “بيجو”؛ ولكن الأمير نجح في إحراز نصر على القائد الجديد في منطقة “وادي تفنة” أجبرت القائد الفرنسي على عقد معاهدة هدنة جديدة عُرفت باسم “معاهد تافنة” في عام 1837م.
وعاد الأمير لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدثته المعارك بالحصون والقلاع وتنظيم شؤون البلاد، وفي نفس الوقت كان القائد الفرنسي “بيجو” يستعد بجيوش جديدة، ويكرر الفرنسيون نقض المعاهدة في عام 1839م، وبدأ القائد الفرنسي يلجأ إلى الوحشية في هجومه على المدنيين العزل فقتل النساء والأطفال والشيوخ، وحرق القرى والمدن التي تساند الأمير، واستطاع القائد الفرنسي أن يحقق عدة انتصارات على الأمير عبد القادر، ويضطر الأمير إلى اللجوء إلى بلاد المغرب الأقصى، ويهدد الفرنسيون السلطان المغربي، ولم يستجب السلطان لتهديدهم في أول الأمر ، وساند الأمير في حركته من أجل استرداد وطنه، ولكن الفرنسيين يضربون طنجة وموغادور بالقنابل من البحر، وتحت وطأة الهجوم الفرنسي يضطر السلطان إلى طرد الأمير عبد القادر، بل ويتعهد للفرنسيين بالقبض عليه.
يبدأ الأمير سياسة جديد في حركته، إذ يسارع لتجميع مؤيديه من القبائل، ويصير ديدنه الحركة السريعة بين القبائل فإنه يصبح في مكان ويمسي في مكان آخر حتى لقب باسم “أبا ليلة وأبا نهار”، واستطاع أن يحقق بعض الانتصارات، ولكن فرنسا دعمت قواتها بسرعة، فلجأ مرة ثانية إلى بلاد المغرب، وكانت المفاجأة أن سلطان المغرب وجه قواته لمحاربة الأمير، والحق أن هذا الأمر لم يكن مفاجأة كاملة فقد تعهد السلطان لفرنسا بذلك، ومن ناحية أخرى ورد في بعض الكتابات أن بعض القبائل المغربية راودت الأمير عبد القادر أن تسانده لإزالة السلطان القائم ومبايعته سلطانًا بالمغرب، وعلى الرغم من انتصار الأمير عبد القادر على الجيش المغربي، إلا أن المشكلة الرئيسية أمام الأمير هي الحصول على سلاح لجيشه، ومن ثم أرسل لكل من بريطانيا وأمريكا يطلب المساندة والمدد بالسلاح في مقابل إعطائهم مساحة من سواحل الجزائر: كقواعد عسكرية أو لاستثمارها، وبمثل ذلك تقدم للعرش الإسباني ولكنه لم يتلقَ أي إجابة، وأمام هذا الوضع اضطر في النهاية إلى التفاوض مع القائد الفرنسي “الجنرال لامور يسيار” على الاستسلام على أن يسمح له بالهجرة إلى الإسكندرية أو عكا ومن أراد من اتباعه، وتلقى وعدًا زائفًا بذلك فاستسلم في 23 ديسمبر 1847م، ورحل على ظهر إحدى البوارج الفرنسية، وإذا بالأمير يجد نفسه بعد ثلاثة أيام في ميناء طولون ثم إلى إحدى السجون الحربية الفرنسية، وهكذا انتهت دولة الأمير عبد القادر، وقد خاض الأمير خلال هذه الفترة من حياته حوالي 40 معركة مع الفرنسيين والقبائل المتمردة والسلطان المغربي.
ظل الأمير عبد القادر في سجون فرنسا يعاني من الإهانة والتضييق حتى عام 1852م ثم استدعاه نابليون الثالث بعد توليه الحكم، وأكرم نزله، وأقام له المآدب الفاخرة ليقابل وزراء ووجهاء فرنسا، ويتناول الأمير كافة الشئون السياسية والعسكرية والعلمية، مما أثار إعجاب الجميع بذكائه وخبرته، ودُعي الأمير لكي يتخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، ورحل إلى الشرق، حيث استنانبول والسلطان عبد المجيد، والتقى فيها بسفراء الدول الأجنبية، ثم استقر به المقام في دمشق منذ عام 1856م وفيها أخذ مكانة بين الوجهاء والعلماء، وقام بالتدريس في المسجد الأموي كما قام بالتدريس قبل ذلك في المدرسة الأشرفية، وفي المدرسة الحقيقية.
وفي عام 1860 تتحرك شرارة الفتنة بين المسلمين والنصارى في منطقة الشام، ولعب الأمير عبد القادر دورا هاما في إيقاف هذه الحرب والدعوة إلى الأمن والسلام، وتوصل إلى إنقاذ حياة 15 ألف من المسيحيين من الموت بشجاعته النادرة وحماسه.
غادر دمشق سنة1863 متوجها إلى مكة المكرمة للحج، وهناك استقبله عدد كبير من الأئمة والعلماء، وفي هذه الأثناء شاع اسمه في كل الأوساط المحبة للسلام !
بعد 4 أشهر قضاها في الحجاز عاد إلى دمشق عبر مدينة الإسكندرية، وواصل حياته العادية بها.
توفي في قصره الصيفي في دمر سنة 1883 , وتعود ملكيته الآن إلى الاتحاد الأوروبي , الذي يريد إقامة متحف للأمير ومركز للاتحاد
وكان قد أوصى بدفنه إلى جوار مقام الشيخ محي الدين بن عربي, ولكنه دفن تحت القبة إلى جوار الشيخ , ولا يزال الضريح قائما إلى اليوم في مكانه
وبعد استقلال الجزائر ، وفي عام 1965، أمر الرئيس الراحل بومدين بنقل رفاته وإعادة دفنها في مقبرة العالية بالجزائر ـ
من مؤلفات الأمير عبد القادر
1 – “المقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في دين الإسلام من أهل الباطل والإلحاد”
وهي رسالة كتبها في سجنه بفرنسا.
2- “ذكرى العاقل وتنبيه الغافل”
وهي رسالة للأكاديمية الفرنسية عندما انتخبته عضوًا فيها.
3 – “المواقف” وهو في التصوف.
4 – تعليقات على حاشية جده “عبد القادر بن خدة” في علم الكلام.!
5 – رسائل وإجابات على أسئلة في العديد من الموضوعات والفنون