كتب – وسيم عفيفي
كانت الأبعاد الصحيحة للمناطق العمرانية في القاهرة سنة 1800 م ، فقد كانت القاهرة في هذا الوقت – باستثناء ضاحيتي بولاق ومصر القديمة – تشغل مساحة تبلغ 730 هكتاراً (الهكتار مقياس فرنسي يساوي عشرة آلاف متر)، وكان يوجد داخل هذه الحدود مناطق واسعة خالية من البناء مثل البرك التي كانت تُغمر بالمياه في وقت الفيضان وتكوّن في بقية العام أراضي واسعة معشبة ومُتربة، كان أكبرها بركة الأزبكية (19 هكتاراً) وبركة الفيل (14 هكتاراً)؛ والبساتين الواسعة المنتشرة على الأخص في الجانب الغربي للخليج (16.4 هكتاراً)؛ والمقابر الواقعة على الأخص في غرب المدينة، والتي كان عدد كبير منها يستخدم حتى هذا الوقت (3.4 هكتاراً)؛ بالإضافة إلى الميادين والرحاب الواسعة الواقعة في سفح المقطم مثل الرميلة وقراميدان (11.5 هكتاراً).
وقد شهدت القاهرة سنة 1800 م اندلاع ثورة القاهرة الثانية التي وقعت عندما كان القتال دائرا بين العثمانين والفرنسين تسلل فريق من جيش الصدر الأعظم وبعض عناصر المماليك إلى داخل القاهرة وأثاروا أهلها فكانت ثوره القاهرة الثانية التي استمرت شهر تقريبا (23شوال ـ 25 ذو القعده/ 30 مارس ـ 20 أبريل 1800) إذ لم يدرك القاهريون حقيقة الأمر عندما استيقظوا على صوت المدافع الدائرة “ماجوا ورمحوا إلى أطراف البلد وقتلوا من صادفوا من الفرنسين”.
ولعب أعيان القاهرة وتجارها وكبار مشايخها دور كبير بخلاف ما حدث في الثورة الأولى، فلم يحجموا عن تزعم الثورة منذ الساعات الأولى، وجادوا بأموالهم لإعداد المآكل والمشارب؛ فقد خرج السيد عمر مكرم نقيب الأشراف ن والسيد أحمد المحروقي شاه بندر التجار على رأس جمع كبير من عامة أهل القاهرة، وأتراك خان الخليلى والمغاربة المقيمين بمصر وبعض المماليك قاصدين التلال الواقعة خارج باب النصر، “وبأيدى الكثير منهم النبابيت والعصى والقليل معهم السلاح” واحتشد جمع اخر وصاروا يطوقون بالأزقه والحارات وهم يرددون الهتافات المعادية للفرنسين ،ثم اشتبك الثوار مع طوائف الأقليات في معارك راح ضحيتها عديدون من نصارى القبط والشوام وغيرهم، وتحصن الفرنسيون بمعسكرهم بالأزبكية.
وأحضر الثوار ثلاثة مدافع كان الأتراك قد جاءوا بها إلى المطرية، وجلبوا عدة مدافع أخرى وجدت مدفونة في بيوت الأمراء، وأحضروا من حوانيت العطارين من المثقلات التي يزنون بها البضائع من حديد وأحجار استعملوها عوضا عن الجلل للمدافع “لضرب مقر القيادة الفرنسية بالأزبكية كما أنشأوا مصنعا للبارود بالخرنفش، واتخذوا بيت القاضى وما جاوره من أماكن “من جهة المشهد الحسيني” مقرا لصناعة وأصلاح المدافع والقذائف “وعمل العجل والعربات والجلل” وأقاموا معسكر للأسرى بالجمالية، وبثوا العيون والأرصاد للتجسس على المحتلين واستكشاف خططهم ونوايهم ولم يتوانوا عن أخذ كل من تعاون مع الفرنسين من الخونة بالشدة والعنف.
وسرعان ما انتقل لهيب الثورة إلى بولاق فقام الحاج مصطفى البشتيلي ومن معه بتهيج العامة ،وانقضوا بعصيهم وأسلحتهم ورماحهم على معسكر الفرنسين، وقتلوا حراسة “ونهبوا جميع ما فيه من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا منها، وعملوا كرانك حوالى البلد ومتاريس، واستعدوا للحرب والجهاد”.
وكافح القاهريون بكل ما في وسعهم من جهد، ووصل المجاهدون الليل بالنهار في قتال عنيف شارك فيه الجميع بحيث “لم ينم سوى الضعيف والجبان والخائف” كما يقول الجبرتي، وقد راحوا يصلون العدو نارا حامية من بنادقهم، في حيت كان هناك من عدهم خلف المتاريس بما يحتاجون مؤن. كذلك “باشر السيد أحمد المحروقى وباقى التجار ومساتير الناس الكلف والنفقات والمشارب” وأتى أهل الأرياف القريبة بالميرة والاحتياجات من السمن والجبن واللبن والغلة والغنم فيبقونه، ثم يرجعون إلى بلادهم.
وعندما عاد كليبر إلى القاهرة بعد ثمانية أيام من اشتعال الثورة وجدها قد تحولت إلى ثكنة عسكرية، فأمر بتشديد الحصار عليها ومنع المؤن المجاهدين، ولم ييئس كليبر فلجأ إلى الاتصال بمراد بك أحد زعماء المماليك، وتفاوض الاثنان على الصلح، وأبرمت بينهما معاهدة بمقتضاها أصبح مراد بك حاكمًا على الصعيد في مقابل أن يدفع مبلغًا إلى الحكومة الفرنسية، وينتفع هو بدخل هذه الأقاليم، وتعهد كليبر بحمايته إذا تعرض لهجوم أعدائه عليه، وتعهد مراد بك من جانبه بتقديم النجدات اللازمة لمعاونة القوات الفرنسية إذا تعرضت لهجوم عدائي أيًا كان نوعه، وكان هذا يعني أن مراد فضل السيادة الفرنساوية على السيادة العثمانية.
ولم يكتف مراد بك بمحاولته في إقناع زعماء الثورة بالسكينة والهدوء، بل قدم للفرنسيين المؤن والذخائر، وسلمهم العثمانيين اللاجئين له، وأرسل لهم سفنًا محملة بالحطب والمواد الملتهبة لإحداث الحرائق بالقاهرة.