كتب – وسيم عفيفي
كانت الوطنية هي حمية عبدالله الشرقاوي شيخ الأزهر وصارت فيه حتى مماته إلا أن السياسة خدعته وجعلت طواعيةً أو جبراً ضليعاً في مؤامرة حِيكت ضد أحد رفاق النضال إنه الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر والذي كان في فترة توليه هذا المنصب الجليل قد ألمَّت بمصر أحداث كبيرة .
هو الشيخ عبد الله حجازي إبراهيم الشافعي الأزهري الشرقاوي ولد عام 1737 ميلادية بقرية “الطويلة” بالقُرب من قرية القرين في محافظة الشرقية .
حفظ القرآن في طفولته في بلدة القرين، حيث نشأ بها وأحب الذهاب إلى المعرفة فدرس قسطًا من العُلوم التي تساعده في الالتحاق للأزهر، ثم غادر إلى القاهرة؛ والتحق بالأزهر ، وتلقى الدروس على يد أشهر علماء الأزهر حتى بلغ القمة وصار يُفتي في مذهبه “الشافعي” وكان على درجة كبيرة من العلم وكان صوفياً كبيراً تواصل بالصوفي الشيخ الكردي ولازمَ كبار الصوفية فاستفاد خبرة .
تولَّى مشيخة الأزهر بعد الشيخ العروسي في مرحلةٍ هي وبلا شك أهم مراحل التاريخ المصري جاء الفرنسيون ودخلوا القاهرة عام 1798 ميلادية بعد مقاومة رائعة وبعد أن استقر الفرنسيين بمصر ، وضع نابليون بونابرت نظام حكم البلاد فقرر حكم القاهرة بمجلس مكون من 9 أعضاء على أن تكون السلطة المدنية للحكومة بيده وكان الشيخ الشرقاوي من أعضاء هذا المجلس
ثم أمر نابليون بونابرت بتكوين مجلس لكل مديرية عدده 7 أفراد وذلك من أجل مصالح المديرية وتم اختيار الشيخ الشرقاوي رئيسا للديوان وبذلك أصبح رئيسا لحكومة القاهرة المدنية بالإضافة إلى مشيخة الأزهر ولقب بذي الرياستين
ظن نابليون أن الشرقاوي قد تم اغراءه بهذه المناصب فقام نابليون ذات مرة بوضع طيلسان الجمهورية الفرنسية على كتف الشيخ الشرقاوي فألقى به على الأرض .
إلى أن اندلعت ثورة القاهرة الأولى وحافظ على الأزهر وقيمته برغم حادثة قصفه وكان الشيخ الشرقاوي يستغلُّ مكانته في الشفاعة لدى الفرنسيين في دفع الأذى عن زعماء الشعب وكثيرًا ما كان يقف في وجه الفرنسيين، ولأنَّه رأى فيهم الخطر الداهم على مصر فيجبُ التصدِّي لهم.
واكتشف الفرنسيون أنَّه تجاوب مع الثورة ، فاعتقلوه مع غيره من الزعماء في سجن القلعة، لكن سرعان ما أخرجوه لحاجتهم إليه بعد فشل ثورة القاهرة عام 1798 ضد الفرنسيين قام نابليون بونابرت بحل المجلس وأستمر معطلا لمدة شهرين
ولكن سرعان ما أعاده نابليون ولكن بشكل جديد حيث قام بتكوين مجلسين
أولهما الديوان العمومي وتكوّن من 60 عضوا من الأعيان المصريين وممثلي الطبقات المختلفة وهذا المجلس يجتمع بناء على دعوة من حاكم القاهرة وكان الشيخ الشرقاوي من أعضاء هذا المجلس ثم أنفض بعد ثلاثة أيام .
و ثانيهما المجلس أو الديوان الخصوصي و عدد أعضاؤه 14 عضوا ويجتمع يوميا لبحث ونظر مصالح الناس ، وكان الشيخ الشرقاوي رئيسا لهذا المجلس وهو عبارة عن مجلس وزراء بإشراف الوزراء .
وبرحيل نابليون ثم تولي كليبر لمنصب كبير الفرنسيين بمصر ووصولاً إلى اندلاع شرارة ثورة القاهرة الثانية وختاماً بقيام سليمان الحلبي بقتل القائد الفرنسي كليبر أحضر الفرنسيون الشيخ الشرقاوي مع الشيخ العريشي قاضي مصر وتم حجزهما ساعات وطلب الفرنسيون منهما البحث عن الأزهريين الأربعة الذين ذكرهم سليمان الحلبي في التحقيق ولكنهما ثارا لذلك الموقف الفرنسي فحاول الفرنسيون الزج بالشيخ الشرقاوي في ذلك الأمر ولكن انتهى الموضوع حين تم إلقاء القبض على من ساعد الحلبي في قتل كليبر .
وعند اضطراب الفرنسيين بسبب مجيء الحملة العثمانية الإنجليزية لمصر ثم احتلال الأتراك العريش قام الوكيل الفرنسي باستدعاء أعضاء الديوان ثم أعتقل 4 منهم وكان في مقدمتهم الشيخ عبد الله الشرقاوي ثم أرسلوا إلى القلعة ومكثوا في سجنهم مائة يوم و تم إطلاق سراحهم بعد معاهدة جلاء الفرنسيين عن مصر .
وبعد خروج الفرنسيين من مصر بذل الشيخ عبد الله الشرقاوي جهداً في النضال بدليل اشتراكه مع زعماء الشعب في عزل خورشيد باشا وتولي محمد علي الحكم في بيت القاضي وكان في مقدمتهم الشيخ الشرقاوي فعلم الشعب بذلك فاجتمع ما يقرب من 40 ألفا وقاموا بمظاهرة ضد الأتراك و ظلمهم السافر ثم طلب القاضي وكلاء الوالي وعندما حضروا إليه عقدوا عقد المجلس وتم عرض مظالم الشعب و مطالبهم وهي :
1 – عدم فرض أي ضريبة علي القاهرة إلا بعد أن يقرها العلماء و الأعيان .
2 – جلاء الجنود عن القاهرة وانتقال حامية القاهرة إلى الجيزة
3 – عدم السماح بدخول أي جندي إلى مدينة القاهرة وهو مسلح .
وبعد أن وصلت رسالة القاضي إلى خورشيد باشا وهى محملة بهذه المطالب شعر أن موقفه خطيراً فأرسل إلى العلماء بمقابلته ولكنهم لم يذهبوا لأنهم فطنوا لمؤامرته فرفض خورشيد باشا مطالب الشعب فقام العلماء ووكلاء الشعب باجتماع في المحكمة واتفقوا مع الشعب على عزل خورشيد باشا و اختيار محمد علي واليا علي مصر و أبلغوه بذلك .
تردد محمد علي في أول الأمر ثم قبل بعد أن أوضح له الشيخ عبد الله الشرقاوي و السيد عمر مكرم بأن هذه هي رغبة الشعب المصري ثم ألبساه خلعة الولاية وكانت هذه هي أول مرة في تاريخ مصر الحديث يعزل فيها الوالي ويختار بدله بإرادة الشعب .
استمر محمد علي مطيعاً لكل ما تم الاشتراط عليه إلى أن تم جلاء حملة فريزر وبجلائها بدأت جذور الأزمة والشقاق بين محمد على والزعامة الشعبية بكل رجالها وكان سبب هذا كما علله عبد الرحمن الرافعي في كتابه عصر محمد على ” انه من الراجح أن محمد على باشا كان يميل في ذات نفسه إلى التخلص من الزعامة الشعبية التي أجلسته على قمة المجد، لأن هذه الزعامة كانت في هذه السنوات الأولى من حكمه بمثابة سلطة ذات شأن تستقصى عليه وتراقب أعماله مراقبة مستمرة، وكانت ملجأ الشاكين ممن ينالهم الظلم أو تخيفهم مساوئ الحكام وهو كان له أحلام وطموحات رأى أنها ستكون وبلا شك مكبلة ومقيدة بالزعامة الشعبية ولربما صنعت دولة داخل الدولة او حكاما شركاء لحاكم فخطط الباشا للتخلص من السيد عمر مكرم وفى نفس الوقت إضعاف المشايخ الذين كان الانقسام قد دب بينهم “
جاءت الفرصة في عام 1809، عندما اتخذ محمد علي مجموعة من القرارات منها: فرض ضرائب على الأراضي المعفاة كأراضي الرزق الإحباسية التي ينفق منها على المساجد والمدارس الدينية كذلك فرضت الضرائب على الأواسى وهى أراضى كانت مع الملتزمين كما كلف المسئولين في المديريات بحصر الأوقاف والرزق ومطالبة نظارها والمستفيدين منها بتقديم مستنداتهم التي تثبت الوضع القانوني لأراضيهم أو مصادرتها وقرر الاستيلاء على نصف ما يتحصل عليه الملتزمون وتزامن ذلك مع اعتقال ولاة الشرطة لواحد من طلاب الأزهر وسجنه في القلعة فبدأت حالة من التذمر في القاهرة وخرجت المظاهرات فى الشوارع إلى الأزهر في الوقت الذي توالت الشكاوى من الأقاليم بسبب قرارات محمد على.
اجتمع عمر مكرم والمشايخ وقرروا كتابة عريضة للباشا بمطالب الناس وعدم الصعود له لقائه بالقلعة، وتعاهدوا على ذلك ، فأرسل محمد على أحد رجاله إليهم وحضر وقال إن الباشا يسلم عليكم، ويسأل عن مطالبكم، فعرفوه بما سطروه إجمالا، وبينوه له تفصيلا وهنا بدأ محمد على في التخطيط للتخلص من عمر مكرم مستعيناً ببعض المشايخ كان أطراف المؤامرة في البداية الشيخ محمد المهدي والشيخ الدواخلى ومحمد أفندي طبل ناظر المهمات .
وفق الجبرتي فقد حاول المهدى والدواخلى مرة أخرى الالتفاف على مقاطعة الزعماء للباشا ولكنهم ذهبوا إلى القلعة للقاء الباشا، وأثناء اللقاء هاجم محمد على عمر مكرم وانتقد مواقفه فأعطاه الشيخان الإشارة إلى استعداد كبار المشايخ للتخلي عن عمر مكرم وعاد الشيخان المهدي والدواخلى إلى عمر مكرم حاملين تهديد محمد على الصريح له وللشعب وزرع محمد على الجواسيس حول بيت عمر مكرم لرصد تحركاته ومتابعة ما يقوم به، وفى نفس الوقت حاول شراءه بالمال، لكن عمر مكرم ثبت على موقفه.
زادت الجفوة بينهما عندما رفض عمر مكرم التوقيع على كشف حساب عن نفقات ولاية مصر مرفوع للباب العالي وهنا تم دخول الشيخ الشرقاوي في المؤامرة عقب اتهام عمر مكرم لمحمد على بالكذب والتلاعب فى أموال الولاية، وبعد محاولات عديدة وافق عمر مكرم على لقاء محمد على في منزل الشيخ محمد السادات، لكن الباشا رفض واعتبر ذلك تجاوزا شديدا من عمر مكرم.
وهنا دبر محمد على والمشايخ مؤامرة للتخلص نهائيا من عمر مكرم ففي صباح الأربعاء 9 أغسطس 1809 توجه محمد على إلى منزل ابنه إبراهيم بالأزبكية واستدعى القاضي والمشايخ، للاحتكام إليهم فيما وقع بينه وبين السيد عمر مكرم بعد أن رتب الأمر معهم على إصدار قرر بنفيه بعيدا عن القاهرة ووجه الدعوة لعمر مكرم للحضور وكان هناك احتمالان لا ثالث لهم:
أن يحضر ويتفق القاضي وأغلب المشايخ على إدانته بتهمة الخروج على ولى الأمر
أو يرفض فيعتبر رفضه خروجا وعصيانا
ورفض عمر مكرم المثول في المجلس الذي كان يعرف قراره المعد مسبقا وبالفعل تقرر عزله ونفيه إلى دمياط، وتعيين الشيخ السادات نقيبا للأشراف.
أما الشيخ المهدي فأسرع يطلب المكافأة، وكانت له، فأخذ وظائف عمر مكرم فى نظر أوقاف الإمام الشافعي ووقف سنان باشا ببولاق، وحصل على ما كان متأخرا له من راتبه من الغلال نقدا وعينا لمدة 4 سنوات دفعها محمد على نقدا من خزانة الدولة.
وتوفي الشرقاوي بعد هذا الموقف بـ 3 سنوات وتم وضعه تحت الإقامة الشبه جبرية تقليلاً لنفوذ الأزهر وسطوته كانت النتيجة لهذه الأفعال في غاية الخطورة حيث أدت سقوط مكانة المشايخ في نظر الناس وفى نظر محمد على أيضا
ويقول الرافعي: ” لم يكن المهدي والدواخلى والشرقاوي في موقفهم عاملين على هدم السيد عمر فحسب، بل كانوا في الواقع يهدمون أنفسهم وزملاءهم، وكل عضو في تلك الجماعة الشعبية التي قامت بدور خطير في تاريخ مصر القومي “.
إلا أن أعمال الشيخ الشرقاوي ربما تشفع له فمن أعماله أنَّه بنى رواق الشراقوة، وعمل على سلامة الأزهر كما كان للشيخ الشرقاوي مؤلفات كثيرة بلغت ما يزيدُ على العشرين مؤلفًا منها:
التحفة البهية في طبقات الشافعية، ضمَّنه تراجم الشافعية ورتَّبه على حروف المعجم وتوجد منه نسخة خطيَّة بدار الكتب المصريَّة.
العقائد المشرقية في التوحيد.
الجواهر السنية في شرح العقائد المشرقية حاشية الشرقاوي.
حاشية على شرح الهدهدي.
شرح حكم ابن عطاء الله السكندري.
فتح المبدي في شرح مختصر الزبيدي
وبرغم أنه في أواخر أيامه تم وضعه تحت الإقامة الشبه جبرية للقضاء على نفوذ الأزهر
ظل الشرقاوي ينشرُ العلم ويدرسه ويناضلُ ضدَّ الظلم ويمنعه حتى وافته المنية، ولقي ربه يوم الخميس 2 شوال سنة 1227 هجرية الموافق 9 أكتوبر سنة 1812 ميلادية وصلَّى عليه بالأزهر جمعٌ كبير، ودُفن في مدفنه الذي بناهُ لنفسه في وقف السيدة ” الحاتون خونر طفاي ” في الصحراء، بجوار مسجد له بناه وقصر بناه للصوفية لحبه لهم